في الوقت الذي تشهد فيه إسرائيل مزيدا من حالة الحراك الشعبي غير المسبوق، تستمر التجاذبات الكبرى داخل المجتمع.
وقد برزت التجاذبات في استمرار الحشد ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خاصة أن السلوك السياسي لشخص رئيس الوزراء الإسرائيلي يسير نحو اتجاه محدد وواحد، وهو الحفاظ على موقعه، وتحصينه، كما بدا من التشريع الأخير، الذي صدر منذ أيام في الكنيست، ما سيسبب مزيدا من الاحتقان حال استمرار التظاهرات ضد إجراءات حكومية تستهدف المساس بالمجتمع العلمي والأكاديمي والصحافة والإعلام ووسائل التواصل المختلفة، في إشارة إلى أن إسرائيل لا يمكن أن تقبل بالتعامل مع نموذج غير ديمقراطي، وهو ما يحذر منه العسكريون الحاليون والسابقون، والذين يرون نُذُر الانقسام داخل إسرائيل.
كل ذلك وغيره ربما يتطلب مراجعات حقيقية للنموذج الإسرائيلي الذي قام على التعددية والديمقراطية، ما دفع الولايات المتحدة، عبر لجنة الحوار الاستراتيجي المشترك، أن تحذر من تداعيات الوصول به إلى حالة من العزلة في ظل وجود حكومتين:
الأولى حكومة الشعب الإسرائيلي المنتخبة، والتي تعمل من خلال مقاربة حكومية، وعبر برنامج يستند إلى فكر الليكود، باعتباره الحزب العريق في الدولة، والثانية يديرها المستوطنون وممثلوهم في الحكومة، الأمر الذي يدفع إلى مزيد من الصراع مع الجانب الفلسطيني، ليس حول الأقصى والمقدسات الإسلامية أو المسيحية، وإنما على الأرض، والاتجاه إلى الحسم، وليس إدارة الصراع، ما يُنهي بالفعل ما تبقى من القضية الفلسطينية، ويحل الصراع من منظور ديني قائم على نفي الآخر، حيث لا وجود للأغيار تحت أي اسم.
ويجري حاليا الحديث عن التشريعات "سيئة السمعة"، التي يصدرها الكنيست، والتي بمقتضاها يستمر الصراع السياسي والأمني على الأرض، مع تصعيد مصالح القوى المجتمعية الداخلية، التي لا تخاف على مصير القضاء والديمقراطية بقدر ما تتخوف من مسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، المساس بالواقع السياسي الراهن، والذي قد يؤدي لمزيد من المواجهات الكبيرة في مجتمع قام على فكر الليبرالية، ومن ثم فإن الحديث عن مستقبل الدولة هو الأهم، ويفسر ذلك عودة وجوه أمنية كبيرة للواجهة السياسية والإعلامية، وقيادات أجهزة المخابرات لتحذر من مغبة ما يجري، وتنصح بالعمل على إنقاذ إسرائيل مما يجري في الشارع، وما يمكن أن تفضي إليه، خاصة أن نتنياهو ما زال قويا، ولديه فرص حقيقية للتعامل وفق استراتيجية مجابهة وعدم تقديم تنازلات، بل العمل على التصعيد والاستمرار في سن التشريعات العاجلة لتأمين حضوره السياسي والحزبي، سواء في الليكود، أو الحكومة، وعينه دائما على استمرار الائتلاف برغم الاستقالات التي تمت مؤخرا، والتهديد اليومي من قادة الائتلاف بتفكيكه، بل والاتجاه إلى بناء شراكات خارج سياق الائتلاف أو إعادة بنائه مجددا، والتخلي عن قادة المستوطنين وأحزابهم إذا استمر نهج التشدد، الذي يمكن أن يجر إسرائيل إلى مساحات تصعيد.
المجتمع الإسرائيلي يظل أهم -سواء استمر نتنياهو، وهو الخيار الأرجح أو لم يستمر- القضية ليست التخوف من انتفاضة ثالثة، أو استمرار المواجهات في مدن الضفة، فإسرائيل لا تتخوف بالفعل من الصدامات التي تجري على جانب آخر، فلديها حساباتها الكبرى في الحسم والمواجهة والتعامل، انطلاقا من قاعدة رئيسة هي الحفاظ على أمنها وتهدئة الداخل، ولو تدريجيا، الأمر الذي يؤكد وجود مقاربة سياسية سيكون لها دورها، وستعمل الشخصيات الوازنة في المجتمع، عسكرية أو سياسية، على تهيئة الأجواء لهذه المقاربة المحتملة، مع التركيز على خطاب إعلامي مختلف، فالتعديلات القضائية التي اقترحتها الحكومة الإسرائيلية تحد من سلطة المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية في إسرائيل، وتسمح بتمرير البرلمان قانونا بالأغلبية، حتى وإن اعترضت عليه المحكمة العليا، كما تُمكّن التعديلات الحكومة من تعيين القضاة، ما يقوّض استقلالية القضاء الإسرائيلي، ما يعني أن الأمر سيمضي إلى مخاطر، بدليل إعلان جهاز المخابرات الإسرائيلية الخارجي، الموساد، أن قيادته وافقت على مشاركة عناصر من العاملين في الجهاز في احتجاجات شوارع إسرائيل.. وهذه الموافقة جاءت بعد فحص الموضوع لدى المستشار القضائي ورئيس الجهاز، ديفيد برنياع.
وبموجب القرار، فإنه سيتم السماح لعناصر بجهاز الموساد بالمشاركة في المظاهرات، بشرط الامتناع عن الإدلاء بتصريحات تهاجم الحكومة، أو تدل على انتماء سياسي.
هذا نموذج لما سيجري في المجتمع الإسرائيلي، وشمل مؤسسات القوة الراسخة، وفي إطار ما يجري في الساحة السياسية والأمنية، وبات يمثل حالة قلق عام لقادة الدولة الكبار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة