جمال الغيطاني مصمم السجاد صاحب "التجليات" ومتأمل التاريخ
مسيرة أدبية متميزة للكاتب الراحل جمال الغيطاني الذي جمع التاريخ واللغة، وانشغل بالألم الإنساني والزمن، وأراد أن يحمي الأدب.
"أنا ابن مدينة عتيقة مدججة بالتاريخ.. أينما وليت الوجه تجد مئذنة، قبة، زخرفة، خط" في قلب القاهرة القديمة نشأ الأديب الراحل جمال الغيطاني ومنها تشرّب الثقافة والتاريخ واللغة، التي تمكن منها وأبدع في انتقاء ألفاظها، متمسكا بحماية الأدب والتأمل في الزمن.
طفولة جمال الغيطاني
الولادة كانت في صعيد مصر، في مدينة جِهينة بسوهاج في 9 مايو 1945، ثم انتقلت والدته بعدها إلى القاهرة بسبب عمل الوالد، لتجمع نشأته بين الأصول الجنوبية في ظل حفاظ الأب والأم على لكنتهما، وبين الترعرع في الجمالية قلب التاريخ، فيذكر جمال أحمد الغيطاني أن حارة الطبلاوي التي عاش بها مع أسرته كان يوجد بها قصر مملوكي اسمه "المسافر خانة".
كانت أسرته فقيرة، ولكنه يذكر كيف كانت والدته الصعيدية "ذاكرة حية متنقلة للحكم والأمثال والحكانات والثقافة الشفهية"، فكانت تستمع لحكاياته وهو ابن السابعة وتتفاعل مع تخيلاته عن النفق الذي اكتشفه في الحارة ووجد به التماثيل وحديث أحدهم له، أما والده فكان رجل عامل لم يكمل تعليمه "لكن كلامه كان زي الشعر".
أول صورة يتذكرها الغيطاني عن طفولته كانت لسماء القاهرة من منزله في الجمالية "كانت غارة جوية إسرائيلية على القاهرة سنة 48، وافتكر كنا نازلين من الطابق الخامس للأول للاختباء"، لم يكن عمره تجاوز الثلاث سنوات، ولكنه امتلك منذ الصغر ذاكرة تحفظ المواقف وتستعيدها بدقة.
جمال الغيطاني في ذكرى ميلاده.. إنجازات إبداعية فريدة وقليل من التكريم
المدرسة والقراءة
كان جده لأمه شيخ القرية وأزهريا لم يكمل تعليمه، ولكن يتذكر جمال الغيطاني المخطوطات التي تركها، فلاحظ وهو ما زال طفلا كتبا لابن عربي والقاضي عياض، ثم نشاته قرب الحسين وجامع الأزهر الشريف بالمكتبات المحيطة به، جعلت القراءة جزء من تكوينه التلقائي "اكتشفت نفسي بنفسي، مش بس كأديب.. ومن تكويني أدركت أني ولدت لأكتب من عمر 7 سنوات".
بسبب عدم قدرة الأسرة على شراء الكتب، كان الغيطاني يذهب إلى عم تهامي بائع الكتب القديمة والمستعملة قرب الأزهر، يعطيه "تعريفة (عملة مصرية قديما)" ويجلس جواره من الظهيرة إلى المغرب يقرأ كل ما هو متاح، من الفلسفة إلى التاريخ والدين، وظل هكذا حتى استطاع في ليلة عيد أن يشتري أول كتاب جديد وهو رواية "البؤساء" لفيكتور هوجو "بُهرت بها، وانفتح عليا باب النعيم اللي عشت فيه طول عمري".
بعد أن أنهى الدراسة الإعدادية، التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية، ودرس بها لثلاث سنوات صناعة السجاد، ثم امتهن تصميم السجاد الشرقي وعمل في أحد مصانع خان الخليلي، ثم انتقل للعمل في الجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي، وأشرف على عدد من مصانع السجاد الصغيرة في القاهرة والمنيا، وكانت خبرته في السجاد، خاصة الإيراني، تأثير على إبداعه الأدبي، فخلق لدية الدأب والتأني.
جمال الغيطاني وصداقة نجيب محفوظ
بسبب عمله في الدقي، كان يمر يوميا على ميدان التحرير ثم كوبري قصري النيل، الذي صادف عليه نجيب محفوظ خلال تمشيته اليومية، وقتها لم يكن عمر جمال الغيطاني قد تخطى الـ 14 عاما، في حين كان نجيب محفوظ في الـ 49، أقبل عليه وتعرّفا وصارا صديقين.
صار نجيب محفوظ أستاذا ومعلما، يلتقيه يوميا بمقهى ريش في الثامنة صباحا، كما كان بوابته إلى الحياة الثقافية والمثقفين، جمعهما الأدب والصداقة "كان أبويا الروحي وسري كان معاه.. علاقتنا استمرت حتى شهدت على لحظاته الأخيرة"، لم يكن فقط باب للمعرفة، لكن حافظ لأسراره، ويستشيره الغيطاني في حياته الشخصية ومسيرته مع الأدب.
تعلم منه الانضباط والإخلاص للأدب، والتعامل مع الكتابة بالتزام واحترامها، فخصص لنفسه مدة يومية للكتابة مثلما فعل محفوظ، قد يكون لهما أيضا نفس النشأة في حي الجمالية، والتأثر بمعطياته وطبيعته، لكن جمال الغيطاني صنع لنفسه لغته وأسلوبه الخاص والقضايا التي انشغل بها، وأصدر عام 1980 كتابه "نجيب محفوظ يتذكر" عن ذكريات الأديب العالمي كماذ حكاها له.
اعتقال جمال الغيطاني
منذ بدأت مسيرة الغيطاني مع القراءة والمعرفة، والشروع في كتابة القصص القصيرة، تعرّف إلى "آرسين لوبين" المعروف باللص الظريف للكاتب الفرنسي موريس لوبلان، ونظرا لنشأته في بيئة فقيرة متعاطفا مع البسطاء، تخيّل أنه "لوبين" يسرق من الأغنياء ويمنح الفقراء، حتى بدأ يتردد على دار الكتب- التي تبعُد دقائق عن بيته- وقرأ عن الاشتراكية.
في عام 1958، تكون لدى جمال الغيطاني ميلا شديدا نحو الماركسية أو الشيوعية العلمية، وصار يقرأ عنها ويتبع منهجها المناصر للعدالة الاجتماعية مع أوائل الستينات، حتى التقى بمثقفين آخرين وشكلوا معا تنظيم يساري تحت اسم "وحدة الشيوعين"، وكان يضم عبد الرحمن الأبنودي وصلاح عيسى وسيد حجاب وغيرهم.
"تصورنا إننا هنغير العالم" لكن وشى عضو بهم، فتم اعتقال جمال الغيطاني- وعمره حينها لم يتخطَ الـ 21 عاما- وأصدقائه في أكتوبر 1966، "كانت تجربة مهمة وضرورية، لكن أرجو متتعوضش" فكان الغيطاني ينام على الأسفلت ويعيش ظروفا قاسية، وحيث ُسحق هويته ليصير رقمه 37 يُنادى به ويعيش في حبس إنفرادي.
خرج جمال الغيطاني من السجن في مارس 1967، وقرر على الفور ألا يكون عضوا في أي حزب سياسي، وأنه سيكتفي بحزب الأدب "وأني مش هكون بوق أو أداة دعاية لأي سياسي"، ولكنه ظلّ يساريا منحازا للعدالة الاجتماعية.
الكتابة والصحافة
بدأت الكتابة في عمر صغير، حين كان مراهقا، وأولى مظاهرها كانت في القصة القصيرة، التي نشر منها بصورة متفرقة ما يفوق الـ 50 قصة قصيرة في مصر وبيروت، في البدايات واجه النشر صعوبة كبيرة، حتى استطاع عام 1969 نشر مجموعته القصصية "أوراق شاب منذ ألف عام" التي قرأها الكاتب والمفكر محمود أمين العالم، وطلب منه العمل محرر ثقافي في جريدة "أخبار اليوم".
وعمل بعد عام 1974، بقسم التحقيقات الصحفية، ثم صار رئيسا لقسم الأدب في جريدة أخبار اليوم عام 1985، وأسس جريدة "معرض 68" الأدبية، التي كانت تجمع كُتاب جيله، كما ساهم في تأسيس جريدة "أخبار الأدب" عام 1993، وظل يرأس تحريرها حتى عام 2011.
المراسل الحربي جمال الغيطاني
وبعد هزيمة يونيو 1967، عمل محررا عسكريا على الجبهة حتى حرب أكتوبر 1973 مرورا بحرب الاستنزاف فغطى على مدار 6 سنوات تقريبا ظروف التدريبات، والعمليات العسكرية التي يتم الإعلان عنها، وفي لحظات في الحرب، أدرك معنى كلمة "ربنا سلّم"، حين كان يشهد انفجار مكان بعد انتقاله منه بدقيقة.
نقل وقائع الحرب لصالح جريدة الأخبر، ولكنه نسج القتال والتجهيز والعتاد مع الحياة والبشر بآلامهم وأفراحهم، فقدم معايشة لأهل مدن القناة بصحبة المصور مكرم جاد الكريم، ويوم 26 أكتوبر 1973 انتقل بطائرة إلى الجبهة الشرقية للحرب، حيث سوريا وهضبة الجولان.
وكتب عن الحرب عدة كتب وروايات ودراسات، منها: "المصريون والحرب: من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر"، ورواية "الرفاعي"، ورواية "حكايات الغريب" تلتي تحولت إلى فيلم بنفس الاسم عام 1992، ومجموعة قصصية بعنوان "أرض.. أرض"، كما كتب عن الجيوش العربية على جبهة سوريا، وخاصة الجيش العراقي، في كتابه "حراس البوابة الشرقية".
ونال عن تغطيته الحربية عام 2013 وسام من الفريق عبد المنعم خليل، أحد قادة الفرق في عبور 1973، وصممه الفريق بنفسه، وهو عبارة عن شعار الجيش الثاني في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، وويتضمن كلمة مصر أولا وسيناء ورأس جندي مصري.
أجمل ما كتب جمال الغيطاني
كانت كتابات جمال الغيطاني تعبر عن همه الشخصي وسؤاله المستمر عن الألم والزمن والإنسان ووحدة الوجع الإنساني، وكذلك انشغاله بهموم المجتمع وآلامه، كان يرصد فيها التاريخ وأحداثه بدقة، وينتقي مفردات اللغة بعناية، شغوفا بالأدب يريد حمايته، ويخشى عليه.
قدّم الغيطاني القصص القصيرة والروايات والكتب، التي تُرجم منها إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية، فمن بين أعماله:
دفاتر التدوين
عبارة عن سلسلة مكونة من 7 كتب، يتناول في كل منها ملاحظاته الحياتية اليومية ومذكراته الشخصية، وهم (خلسات الكرى، دنى فتدلى، رشحات الحمراء، نوافذ النوافذ، نثار المحو، رن، من دفتر الإقامة),
كتاب الأسفار
من أدب الرحلات، ويضم بجزئيه (أسفار المشتاق، وأسفار الأسفار) ملاحظات جمال الغيطاني في رحلاته في بلدان مختلفة حول العالم.
رواية الزيني بركات
اشتهر بها الغيطاني، وما زال يلقب بصاحب "الزيني بركات"، وهي الرواية التي كتبها عام 1974، وهدف منها أن يُسقط الأحداث التاريخية من خلال شخصية الزيني بركات الحقيقية بعصر المماليك، ويبتكر منها "البصاصين" الذين يراقبون الناس ويتدخلون في حيواتهم، وكأنه إشارة إلى القمع والسلطة البوليسية، وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني بنفس الاسم عام 1995، بطولة أحمد بدير وإخراج يحيى العلمي.
كما قدم أعمالا أخرى، هي:
- الحصار من ثلاث جهات
- الزويل- 1974
- وقائع حارة الزعفراني- 1976
- ملامح القاهرة في ألف سنة – 1983
- رسالة في الصبابة والوجد- 1987
- كتاب التجليات: الأسفار الثلاثة- 1990
- هاتف المغيب- 1992
- المجالس المحفوظية- 1994
- إبراء الذمة- 2000
برنامج جمال الغيطاني
قدّم جمال الغيطاني أكثر من برنامج تلفزيوني، من بينهم "علامات" الذي تم إنتاجه عام 2007 وكان يُعرض على قناة النيل للأخبار لسنوات، وكان يستضيف في حلقاته رموز الأدب والرواية، وأهل السياسة والصحافة، كما قد!م برامج أخرى عن القاهرة القديمة، وتحتفي التراث وتمزج التاريخ بالواقع، منها:
برنامج تجليات مصرية- عمارة الخلاء
كان يستهدف الغيطاني في هذا البرنامج تناول العمارة في القاهرة القديمة، يحكي تاريخها ويقترب من نقوشها ورموزها، ويقدم تعريفا بأصولها، قدّم الغيطاني رؤية البرنامج، وكتب السيناريو وأخرجه محمد الشناوي، وعرضته قناة دريم عام 2002.
تجليات مصرية- قصائد الحجر
تم إنتاجه وعرضه على قناة دريم عام 2003، تعاون فيه جمال الغيطاني مع المخرج علي شوقي، وكان هدفه التنقل سيرا في شوارع القاهرة القديمة، ليربط التاريخ واللغة والأدب بالواقع وحكايات الناس اليومية، وكذلك ذكريات الغيطاني نفسه مع هذا المكان.
تجليات مصرية- قاهرة نجيب محفوظ
كان الغيطاني يريد أن يتعرف الناس على القاهرة التي عاش بها الأديب العالمي، والتي جسدها في أعماله الأدبية، فقدّم مع المخرج علي شوقي البرنامج، الذي تم عرضه على قنوات دريم عام 2006، وبدأه من الحسين، حيث تم تشييع جنازة نجيب محفوظ، وانتقل منه إلى الأماكن التي شهدت طفولته وصباه والمقاهي التي اعتاد ارتيادها، وما ذكر منها في رواياته.
جوائز جمال الغيطاني
- جائزة الدولة التشجيعية- 1980.
- وسام الاستحقاق الفرنسي بدرجة فارس عام 1989.
- جائزة سلطان بن علي العويس- 1997.
- جائزة الصداقة المصرية الفرنسية 1994.
- جائزة لورا باتليون (فرنسا)- 2005.
- جائزة جرينزانا كافور (إيطاليا)- 2006.
- جائزة الدولة التقديرية- 2007.
- جائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2009- عن كتاب "رن".
- وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.
- وسام جوقة الشرف الفرنسية برتبة قائد- 2014.
- جائزة النيل للآداب- 2015.
متى مات جمال الغيطاني؟
تزوج جمال الغيطاني من ماجدة الجندي، التي رأست تحرير مجلة علاء الدين وترأست القسم الأدبي في جريدة الأهرام، وأنجبا محمد وماجدة، ورحل في 18 أكتوبر عام 2015، بعد أن أنهكه المرض وأدخله في غيبوبة استمرت لثلاثة أشهر حتى توفي في مستشفى الجلاء العسكري.
aXA6IDE4LjIyNC41Ni4xMjcg جزيرة ام اند امز