جمال الغيطاني في ذكرى ميلاده.. إنجازات إبداعية فريدة وقليل من التكريم
بفضل رواية "الزيني بركات"، تمكن جمال الغيطاني من تجاوز الأطر التقليدية التي جرى الترسيخ لها استجابة لطرق قص واردة من الغرب.
تحل، الخميس، ذكرى ميلاد الكاتب والروائي المصري البارز جمال الغيطاني، أحد أبرز الأصوات الروائية العربية في نصف القرن الأخير، ويكاد يكون في طليعة جيل الستينيات الأدبي، والذي اعتبر نجيب محفوظ الأب المؤسس للرواية العربية الحديثة، وسار على خطاه.
وعلى الرغم من وعود كثيرة بتخليد ذكراه رسمياً في صورة مركز ثقافي يحمل اسمه، إلا أن هذه الوعود تراجعت ولم ينفذ منها إلا تسمية أحد شوارع القاهرة الفاطمية باسمه، وهو شارع متفرع من شارع المعز لدين الله الفاطمي، كما تم إطلاق اسمه على إحدى المدارس بمسقط رأسه في محافظ سوهاج جنوب مصر.
وُلد الغيطاني في 9 مايو/أيار 1945، واعتبر نفسه محظوظاً لأن ميلاده تزامن مع انتهاء حدث تاريخي فارق هو الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، حين كان العالم يستعد لبدء مرحلة جديدة من صراعات "الحرب الباردة".
وسرعان ما جاءت أسرة الغيطاني إلى القاهرة بحثاً عن حياة أفضل عقب انتهاء الحرب، وبفضل هذا القرار وجد الطفل جمال الغيطاني نفسه في قلب القاهرة الفاطمية، قُرب مسجد الحسين، وتفتح وعيه على ذات الفضاء المكاني الذي صنع مخيلة نجيب محفوظ، الذي كان شيخه في رحلة الأدب التي ربطت بين كاتبين ينتمي كل منهما لجيل مختلف، إلا أنهما التقيا معاً في الانشغال المشترك بفكرة الزمن، وفي صداقة نادرة بين الأستاذ المؤسس والتلميذ القادر على أن يجد لنفسه المساحة التي تميز صوته الإبداعي وتجعل منه كاتباً مجدداً.
ومنذ أن اكتشف سحر القراءة في مكتبات الوراقين، التي كانت تحيط بسور الجامع الأزهر، أدرك الغيطاني أن طريق تميزه ينطلق من الإضافة لهذا الإرث السردي العريق، مع إدراك لقيمة الإضافة التي قدمها الساردين الكلاسيكيين، أمثال تولستوي، ودويستوفسكي، وبلزاك، ونجيب محفوظ، الذي كان التعرف عليه والتردد على ندوته الأسبوعية بوابة للعبور لعالمه الجديد الذي قرر الانتماء إليه.
ومن خلال هذه الندوة؛ ارتبط عضوياً بكُتاب جيله من مبدعي الستينيات الذين كانوا يتحلقون حول عميد الرواية العربية ويشتبكون مع رؤاه، وعن طريق صديقه أحمد الخميسي، تعرف على أسرة الكاتب الاشتراكي عبدالرحمن الخميسي، وبدأ ارتياد صالون مفيد الشوباشي، وعرف الطريق للفكر اليساري مما أدى إلى اعتقاله في أكتوبر/تشرين الأول 1966، ومعه عبدالرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وإبراهيم فتحي، وصلاح عيسى، وصبري حافظ، قبل أن يُطلق سراحه في مارس/آذار 1967، بفضل تدخل الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر.
وعقب خروجه من المعتقل؛ تبلورت لديه رؤية خاصة تقوم على إعادة النظر في التراث الإبداعي العالمي كله، ليكون مجدداً وليس ناسخاً، وخلال رحلته أدرك أن ذروة البلاغة المصرية كانت في العهد المملوكي، خلافاً لرؤية أكاديمية تراه عصراً للانحطاط.
ومع الاسترسال في القراءة، شعر بقيمة نصوص الحوليات التاريخية التي تنطق بخصوصية مصرية، فالصياغة باللغة العربية الفصحى بينما التراكيب ذاتها بالعامية المصرية.
وتساءل الغيطاني "لماذا لا يكتب بهذا الأسلوب؟" وقد قادته ظروف نكسة هزيمة يونيو/حزيران 1967 إلى إعادة اكتشاف وقراءة كتابات المؤرخ المصري ابن إياس، صاحب الكتاب الشهير "بدائع الزهور في وقائع الدهور".
وكان ذلك بتحريض صديقه الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى الذي قاد صاحبه للتعرف على مصادر تاريخية نادرة في طريقة سردها، وبفضل هذا الاكتشاف أوجد لغة فريدة للقص، تجلت في قصة "هداية أهل الورى في عض ما جرى بالمقشرة"، التي نشرها بعد شهرين من النكسة، لكن الخصوصية في السرد جاءت مع "أوراق شاب عاش منذ ألف عام".
وبعد فترة وجيزة من العمل، ظهرت رواية "الزيني بركات" التي صنعت شهرة الغيطاني بعد أن تحمست لها قامات نقدية، مثل لطيفة الزيات، ومحمود أمين العالم، الذي كان في مكانة الأب الروحي للغيطاني، واستطاع أن يوفر له فرصة العمل بالصحافة.
وبفضل هذه الرواية التي كانت قناعاً تاريخياً لكشف فساد الأجهزة التسلطية خلال الدولة الناصرية، تمكن الغيطاني من تجاوز الأطر التقليدية التي جرى الترسيخ لها استجابة لطرق قص واردة من الغرب، أو لنمط من أنماط التبعية الذهنية، ونجح في كسر هذا النموذج.
ومع نشر كتاب "التجليات" بأجزائه الـ3 التي يتكئ فيها على نبرة السيرة الذاتية، كان الغيطاني قد بلغ ذروة ثقته في الشكل الروائي الذي ابتكره، وتواصل معه في مسارات عديدة كان آخرها سلسلة "دفاتر التدوين"، التي تضرب مسألة الشكل الروائي، وتستثمر في نمط الشذرات الذي لم يكن شائعاً في زمن كتابتها ونشرها.
وإذا كان الغيطاني قد بالغ في السنوات الأخيرة من اتهام الصحافة التي امتهنها بالتهام وقته الإبداعي، إلا أنه لطالما اعترف بدورها في ربطه بالمجال العام، واستثمار ما توافر له في رحلته مع صاحبة الجلالة في إيجاد شخصيات وأحداث قصصية كتبها وأعاد صياغة مصائرها.
وبفضل تجربته الفريدة في العمل كمراسل حربي تماهى الغيطاني مع أسماء إبداعية بارزة، مثل: أرنست همينجواي، وجوروج أورويل، وخلق تجربته في ترسيخ وجود "أدب الحرب"، كسرديات نوعية، وسعى لإشاعتها وتشجيع الكتاب على كتابتها، وقدم فيها العديد من النصوص الخالدة مثل "الرفاعي" أو "حكايات الغريب" التي تحولت لفيلم تلفزيوني ناجح.
وبخلاف العمل كمراسل حربي، عمل في قسم التحقيقات الصحفية، وفي عام 1985، تمت ترقيته ليصبح رئيساً للقسم الأدبي في جريدة "أخبار اليوم"، إلى أن أسس جريدة "أخبار الأدب" عام 1993؛ حيث شغل منصب رئيس التحرير حتى تقاعده قبل 5 سنوات من رحيله في أكتوبر/تشرين الأول 2016، ومثلت تجربة رائدة في الصحافة العربية، سواء بالكوادر الصحفية التي قدمتها، أو في القضايا التي أثارتها، ودورها في ربط الثقافة المصرية بالمبدعين العرب.
وفي مسيرته الإبداعية الجديرة بالتقدير، لم يحرم الغيطاني من فرص التكريم على الصعيدين العربي والعالمي، فقد فاز بجائزة سلطان بن علي العويس عام 1997، وجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2009، وعالمياً حظي بالعديد من الأوسمة الفرنسية أبرزها وسام فارس عام 1987، كما فاز في مصر بجائزة الدولة التقديرية للأدب.
aXA6IDMuMTQ5LjI1MC4xOSA=
جزيرة ام اند امز