في ذكراه الأولى.. جمال الغيطاني "محاورا"
أخرج الغيطاني 3 كتب مهمة جمع بينها كلمة "يتذكر"، هذه الكتب حصيلة 3 حوارات طويلة أجراها مع كل من نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ومصطفى أمين
"تتوالى الأيام، تنطوي ومعها ننطوي، تنقضي شيئاً فشيئاً، ظلال تلك الرحلة، التي نُدفع فيها بقوة هائلة لا ترد إلى جهة بعينها، لا بد أن يبلغها كل منا في يوم ما، ساعة ما، لحظة ما".. (جمال الغيطاني)
عام كامل مر على رحيل الكاتب والروائي المصري جمال الغيطاني (1945 - 2015)، جمال الغيطاني لم يكن مجرد كاتب روائي من الطبقة الأولى الممتازة، ولا فقط قاص بارع شق طريقاً جديداً في مسار القصة العربية بمجموعته اللافتة «أوراق شاب عاش منذ ألف حياة»، بل كانت تجربة الغيطاني الإنسانية والحياتية متعددة الوجوه والإنجازات والمسارات.. كان الغيطاني مؤسسة بأكملها، مؤسسة لها تاريخ، ذاكرة حية، ومنجز باق وخالد.
من أبرز وجوه الغيطاني المتعددة، وجه الصحفي الثقافي، المحاور الذكي اللماح، الذي استطاع بفضل ثقافته وموهبته أن يبدع ويتفوق في كافة أشكال الكتابة الصحفية؛ الخبر، والتحقيق، والريبورتاج، والحوار الذي تميز فيه تميزاً كبيراً ولافتاً.
نجح الغيطاني في أن ينتزع ثلاثة حوارات فريدة من شخصيات ثلاثة عُدّ كل منها "هرم صنعته" و"شيخ طريقته" كل في مجاله.
أخرج الغيطاني ثلاثة كتب مهمة، جمع بينها كلمة "يتذكر".. كانت هذه الكتب حصيلة حوارات طويلة أجراها مع كل من: نجيب محفوظ عميد الرواية العربية بلا منازع، وتوفيق الحكيم الأب الشرعي لفن المسرح في الثقافة العربية، ومصطفى أمين رائد ومؤسس مدرسة الأخبار وأخبار اليوم الصحفية، ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله.
فلسفة الحوار الصحفي لدى الغيطاني تستند إلى قاعدة مفادها "أنا دائما في حوار مع اللحظة التي تفني في محاولة لاقتناصها"، يقول الغيطاني، هناك دائما نهر لا يتوقف، زمن ينقضي، وهناك محاولات محمومة ودؤوبة لاقتناص ما نستطيعه من هذا النهر الجاري، نسعى لتثبيته وحفظه ومفارقته لمجرى الفناء والزوال، تظهر هذه الحوارات بمادتها وأسلوبها وصياغتها، وعي الغيطاني المرهف بالفارق الكبير بين أسلوب كتابة النص الأدبي (رواية/ قصة/ خاطرة.. إلخ)، وبين أسلوب كتابة مقالات الرأي وبين أسلوب صياغة الحوارات الصحفية، يقول الغيطاني "نتيجة عملي في الصحافة يوجد عندي فصل يصل إلى حد الوسوسة، فعلى سبيل المثال فإن القلم الذي أكتب به مقالاتي لا أكتب به أبداً أعمالا أدبية، ووقتي المسائي لا يمكن أبداً أن أعمل فيه للصحافة، إنه وقت مكرس تماما للأدب، قد لا أكتب، عندئذ أقرأ، عندما كنت أعمل مراسلا حربيا كتبت مقالات في السيارة وهذه ظروف استثنائية".
نجيب محفوظ يتذكر
في مناسبات عدة ومختلفة وعبر سنوات طويلة، كان نجيب محفوظ يشدد ويؤكد أهمية وقيمة الكتاب الذي أصدره عنه جمال الغيطاني بعنوان "نجيب محفوظ يتذكر"، صرح نجيب محفوظ في حوار معه قائلا: "فيما يتعلق بسيرتي الذاتية فقد أمليتها على جمال الغيطاني وصدرت في (نجيب محفوظ يتذكر)، أما الجانب الفكري والعقلي فأعطيته إلى رجاء النقاش".
إذن، وحسب نجيب محفوظ نفسه، فإن كتاب جمال الغيطاني الحواري معه والمنشور قبل حصوله على جائزة نوبل ببضع سنوات، هو أول مرجع كامل وحقيقي لسيرة محفوظ، كتاب قوي وعميق وممتع، ربما كانت المرة الأولى التي يتدفق فيها نجيب محفوظ في الحديث عن نفسه، وعن عوالمه الروائية وعن عشقه للكتابة والمسارات التي قطعها وهو يسير في منعرجاتها وفي طرقها المتشعبة.
"نجيب محفوظ يتذكر"، أول كتاب يورد معلومات كاملة ووافية ودقيقة عن تفاصيل حياة صاحب الثلاثية ونشأته الباكرة، والمؤثرات الأولى في تكوينه وثقافته، وقراءاته والأعمال التي لعبت دورها في توجيه مسار حياته.
من الأسباب الرئيسية التي ربما كانت وراء نجاح وانتشار هذا الكتاب، تلك الصلة القوية التي ربطت بين محفوظ والغيطاني، فقد تتلمذ جمال الغيطاني على نجيب محفوظ الذي أنزله منزلة شيخه، وجعل من نفسه مريداً بالغ الإخلاص للشيخ الذي تحول إلى "قطب"، ومع ذلك فعندما أمسك الغيطاني بالقلم ليبدع وعرفت يده السيطرة على هذا القلم، اختار طريقاً فريداً، كان أول الداخلين والماضين بجسارة فيه، وهو طريق الكتابة التي تتخذ من أحداث التراث المصري ولغته، خصوصا في العصر المملوكي الذي انتهى بالغزو العثماني، أقنعةً ومرايا لرؤية أحداث الحاضر الذي انتهى بهزيمة 1967 والتي رآها الغيطاني موازية للغزو العثماني لمصر في نهاية القرون الوسطى.
توفيق الحكيم يتذكر
أما كتاب "توفيق الحكيم يتذكر"؛ فهو حوار صحفي مطول، أجراه الغيطاني مع الحكيم، ويكشف الكثير من الجوانب الشخصية لهذا الرجل الأديب الحكيم المؤسس الرائد، وكان أصل هذا الحوار قد نشر على حلقات ظهرت بجريدة "الشرق الأوسط"، ثم اكتملت فى شكل فصول في عام 1983، ونشرت كاملة في مجلة (آخر ساعة) المصرية.
بالتأكيد كانت ذكريات توفيق الحكيم جديرة بالقراءة والمتابعة، خصوصاً أن جمال أسلوب الغيطاني في صياغة الحوار، أسئلة وإجابة، وفي سرد ذكريات الحكيم جاء انسيابياً ورائعاً، أيضاً كان من اللافت في هذا الكتاب قدرة الغيطاني على الكشف والبحث والاستقصاء وتتبع خيوط السرد والحوار وصولاً إلى جوانب ومساحات وفضاءات جديدة استطاع أن يسجلها ويخرجها عن توفيق الحكيم في هذا الحوار/الكتاب.
مصطفى أمين يتذكر
وعلى غرار الكتابين السابقين، جاء الكتاب الثالث في هذه السلسلة التي أراد بها الغيطاني أن تكون مفتاحاً ودليلاً لمسارب شخصيات رائدة في الفن والأدب والصحافة، بالمنهج ذاته والتناول والأسلوب، أجرى الغيطاني حواره المطول مع رائد ومؤسس مدرسة أخبار اليوم في الصحافة المصرية، فكان معنياً بفترة النشأة والتكوين والمؤثرات التي لعبت دورها في تشكيل الشخصية التي صارت على رأس قائمة أشهر الصحفيين في العالم العربي.
ولأن الغيطاني هو ابن هذه المؤسسة التي أنشاها مصطفى أمين فكان شغوفاً بتتبع فكرة تأسيسها، وكيف ظهرت إلى الوجود، وكيف برزت ونجحت وتفوقت لتكون واحدة من أشهر مدارس الصحافة والتحرير الصحفي في العالم العربي.
aXA6IDE4LjIxNy4xMTguNyA= جزيرة ام اند امز