غزة ومأساة النزوح.. فاتورة بقاء غير مضمون

على طول شارع الرشيد الساحلي ينسابون مشيا على الأقدام أو في مركبات، يحثون أجسادا متثاقلة بنظرات واجمة عاجزة عن استشراف اللحظة التالية.
ففي مشاهد تتكرر للمرة الرابعة وربما الخامسة منذ اندلاع حرب في القطاع قبل نحو عامين، يجد سكان مدينة غزة أنفسهم أمام مأساة النزوح من جديد.
ومع صدور أوامر إخلاء إسرائيلية واستعداد الجيش لشنّ هجوم واسع على المدينة، بدأ آلاف السكان رحلة محفوفة بالموت عبر الطريق الساحلي المؤدي جنوبا، أملا في العثور على بقعة أكثر أمانًا ولو مؤقتًا.
ورافق مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» آلاف النازحين الذين تقاطروا على الطريق الساحلي، حيث تحاول الأسر التي تمتلك سيارة أو تستطيع دفع أجرة مرتفعة الانضمام إلى قوافل النزوح بمركبات متهالكة تفتقر لأبسط شروط السلامة، بعضها بلا زجاج أمامي أو نوافذ.
فيما قطع الغالبية الطريق سيرا على الأقدام تحت لهيب حرارة الشمس الخانقة، حاملين ما استطاعوا إنقاذه من متاع، وخلفهم، تتصاعد أعمدة الدخان من الأحياء التي غادروها، بينما تظل أصوات الغارات الإسرائيلية تذكيرا دائما بأن الخطر لا يزال يلاحقهم.
حصار ومجاعة
تشير أحدث تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى نزوح أكثر من 250 ألف شخص نزحوا من مدينة غزة إلى مناطق أخرى من القطاع.
بينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو مليون شخص كانوا يحتمون داخل المدينة رغم معاناتها من ظروف مجاعة وفق تقارير دولية.
ويعيش النازحون على الهامش، كما هو الحال مع عمر الفار (37 عاما)، الذي اضطر مع أسرته إلى نصب خيمة بجوار مكب نفايات ضخم.
ويقول الفار للصحيفة: "التفكير في العودة إلى المنزل لجلب بعض الحاجات قد يكون خطأً قاتلًا، خاصةً أنك لا تعرف إذا كان منزلك ما زال قائمًا".
ويواجه النازحون ظروفًا قاسية تتراوح بين انتشار الحشرات والقوارض والروائح الكريهة، وارتفاع الإيجارات إلى مستويات غير مسبوقة.
كلفة البقاء
وفقا للصحيفة، فقد تحول النزوح ذاته إلى عبء مالي ثقيل، بدءا من أجرة المواصلات وشراء البلاستيك لتغطية الخيام، ودفع ثمن أرض صغيرة لنصب الخيمة عليها، وحتى استخدام مقبس كهربائي لبضع دقائق أصبح سلعة تُباع بأثمان باهظة.
وكان الكثير من النازحين إلى غزة قد نزحوا في الأصل من مناطق أخرى داخل القطاع، ومع تقدم الجيش الإسرائيلي في الأحياء الشرقية مثل الزيتون، تدفقت الحشود نحو الغرب الساحلي، حيث اضطر البعض إلى نصب خيامهم على شاطئ البحر الذي لم يسلم بدوره من الغارات.
ودمرت الغارات الإسرائيلية أبراجا سكنية شاهقة قالت إسرائيل إنها كانت تُستخدم لأغراض عسكرية من قبل حماس، بينما نفت الحركة ذلك وأكد سكان غزة أن هذه الأبراج كانت مأهولة بالمدنيين.
حلم بسيط
كشفت تحليلات لصور الأقمار الصناعية أجرتها "نيويورك تايمز" أن حي الزيتون وحده تحول إلى أرض قاحلة بعد تدمير معظم مبانيه واختفاء المخيمات التي كانت تؤوي النازحين، بينما تحولت المعالم البارزة في غزة إلى ركام.
ويصف الجيش الإسرائيلي غزة بأنها "معقل لحماس"، مؤكدًا أنه يسيطر على 40 بالمائة من المدينة رغم أن الهجوم الشامل لم يبدأ بعد.
وهذه التصريحات تزيد من حيرة السكان بين الترقب والخوف، مع عدم قدرتهم على تصور مستقبل واضح.
وفي خضم هذه المعاناة، يحلم عمر الفار بأن تنتهي الحرب قائلًا: "أتمنى أن أعود إلى ركام منزلي، أو على الأقل إلى حارتي".
ويظل حلمه البسيط أن يعود أطفاله يومًا إلى مقاعد الدراسة "في حال ستكون موجودة".