أحداث كثيرة شهدها العالم خلال العام المنصرم تستحق أن يطلق عليها حدث العام، ولعل القاسم المشترك بينها جميعا هو كمية الدماء التي أهدرت، وعدد الأرواح التي أزهقت، وحجم الدمار الحاصل.
هذه الدماء كان سببها إما جنون الطبيعة أو تهور البشر ومغامراتهم، وإذا كان البعض قد يختلف في رؤيته للحدث الأكثر دموية في العام الذي لملم أوراقه قبل ساعات، فإنه ما لا خلاف عليه هو أن عام 2023 اكتسب لقب "العام الأكثر دموية" بكل جدارة واستحقاق.
فلم يكد العالم يودع عام كورونا بكل مآسيه وضحاياه وتضحياته وآثاره الإنسانية والاقتصادية الكارثية، ولم يكد العالم يبدأ مرحلة التعايش مع تداعيات ونتائج الحرب الروسية الأوكرانية المعروفة حتى بدأ حمام الدم مع بدايات العام المنصرم ولم تتوقف مع انتهائه.
فبعد نحو شهر وبضعة أيام فقط من مطلع العام 2023 فقد ما يقرب من 46 ألف شخص حياتهم وأصيب أكثر من 24 ألفا آخرين بعد الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غرب سوريا في فاجعة إنسانية ووصفتها منظمة الصحة العالمية بأنها "أسوأ كارثة طبيعية" في أوروبا منذ قرن من الزمن.
وقبلها بأيام قليلة كان قد قتل أكثر من 100 شخص وأصيب أكثر من 200 آخرين في تفجير انتحاري داخل مسجد بمدينة بيشاور في باكستان، وبعدها بأقل من شهرين وتحديدا في منتصف أبريل/نيسان، اندلع اقتتال داخلي في السودان صحبته اشتباكات عنيفة، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وعم الاقتتال أنحاء مختلفة من البلاد، ما أسفر حتى الآن عن مقتل نحو 12 ألفا.
وفي سبتمبر/أيلول كانت المنطقة على موعد مع كارثة طبيعية أخرى حلت هذه المرة بالمغرب عندما ضرب زلزال عنيف، إقليم الحوز، مخلفا آلاف الإصابات وعشرات الآلاف من المشردين.
وفي الشهر نفسه، انتقل عنف الطبيعة مصحوبا بأخطاء البشر إلى رقعة أخرى في المنطقة عندما ضربت العاصفة دانيال شمال وشرق ليبيا، وخلفت وراءها مدينة درنة بأكملها غارقة ومدمرة على آلاف من الجثث والأشلاء.
ثم جاء شهر أكتوبر/تشرين الأول ليكمل مآسي العام بأسوأ كوارثه وأعلاها تكلفة وأبشعها مسارا وأخطرها في النتائج وأكثرها دمارا، عندما شنت حركة حماس هجومها المباغت وغير المسبوق على مدن إسرائيلية تحت شعار "طوفان الأقصى"، لترد إسرائيل بقصف وحشي عنيف على القطاع بأكمله جوا وبرا، وبعقاب جماعي لكل سكانه لم يتوقف حتى اللحظة.
من وجهة نظري التي أعتقد أن كثيرين قد يتفقون معها، أرى أن هذه الحرب هي حدث العام الماضي بامتياز، وربما تكون أيضا حدث العام الجديد، وربما أعوام أخرى لاحقة، لعدة أسباب؛ يتعلق أولها بحجم الدمار الذي لحق بالقطاع جراء الحرب، والذي نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية تقريرا عنه، مشبهة إياه بدمار المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
ووصفت الصحيفة الحرب بأنها واحدة من أكثر الحملات تدميرا لمنطقة حضرية في التاريخ الحديث، مشيرة في مقارنة ذات دلالة إلى أن "الولايات المتحدة ألقت 3 آلاف و678 قنبلة على العراق بين عامي 2004 و2010، بينما ألقت إسرائيل ما يقارب 29 ألف قنبلة على غزة منذ 7 أكتوبر".
ومن هنا فما إن تضع هذه الحرب أوزارها وينقشع الغبار عن حجم ضحاياها الحقيقي، فإن غزة مرشحة بقوة لدخول تاريخ المدن الأكثر تضررا من الحروب في التاريخ الحديث لتنضم إلى مدن مثل درسدن الألمانية وهيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، بل وفي الأغلب ستتفوق على كل هذه المدن وستكون هي المدينة الأكثر تضررا في تاريخ الحروب الحديثة، خاصة إذا أضفنا إلى حجم الدمار الذي لحق حتى اللحظة بنحو 70% من مباني غزة، إلى جانب عدد الضحايا الذي توزع تقريبا على معظم بيوتها وعوائلها، حيث أسفرت الحرب حتى وقتنا هذا عن حصيلة مأساوية تجاوز ضحاياها نحو 22 ألف قتيل على الأقل، إضافة إلى إصابة أكثر من56 ألفا، منذ السابع من أكتوبر، وآلاف المفقودين، ونزوح كل سكان غزة تقريبا، البالغ عددهم نحو 2.3 مليون نسمة.
تلك الحصيلة جعلت الأمم المتحدة تصف عام 2023 بأنه الأكثر دموية في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ورغم فداحة هذا الرقم إلا أنه مرشح للتصاعد بشكل كبير في ظل عدم انتهاء الحرب التي أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنها ستستمر "أشهرا عدة" قدرها مسؤول إسرائيلي آخر بستة أشهر على الأقل.
وفي ظل التعهد الإسرائيلي بالقضاء على حماس وما سيتبعه بالتأكيد من سقوط ضحايا أبرياء جدد، ناهيك عن عدم المقدرة على تقديم الإحصائيات النهائية للضحايا تحت الأنقاض، دون نسيان الحالات الحرجة للآلاف من الجرحى والمصابين، فإن عدد ضحايا حرب غزة سيفوق بالتأكيد عدد ضحايا قصف قوات الحلفاء لمدينة درسدن الألمانية في فبراير 1945 والذي يتراوح وفقا لمعظم التقديرات بين 22 إلى 25 ألف قتيل على أكثر تقدير.
وفي غزة كما كان في درسدن وهيروشيما.. لا يتعلق الأمر فقط بعدد القتلى أو الضحايا أو المنازل المدمرة، وإنما يتجاوزه لذكريات لا يمكن نسيانها، وتاريخ يراد محوه، وحاضر يراد تدميره، ومستقبل يراد تغييره، ومخططات يراد تنفيذها، ففي درسدن ورغم انقضاء تسعة وسبعين عاما منذ أهلكت غارات القصف التي شنها الحلفاء في الحرب العالمية الثانية آلافا من البشر وألحقت الدمار بالكنائس والقصور التاريخية المبنية على طراز الباروك، مازالت مشاعر الاستياء الباقية في المدينة توفر أرضا خصبة للتيار اليميني المتشدد، وفي هيروشيما لم تدمر القنبلة النووية في أول استخدام لها المدينة فقط أو تقتل ربع سكانها البالغ عددهم وقتها نحو 344 ألف نسمة، بل مسحت التاريخ والثقافة والذكريات العائلية للمنطقة بمرور الوقت.
أعيد بناء درسدن، وأصبحت المدينة التي يسكنها نحو نصف مليون نسمة وتمثل عاصمة لولاية ساكسونيا بمثابة قصة نجاح نادرة لمدن ألمانيا الشرقية، لكن مع ذلك تبقى في قلب سكانها حتى الآن غصة مما جرى لها يصعب التحرر منها مهما مضى الوقت، لذا كان سكانها حريصين على الإبقاء على ما حل بأبرز معالهما وهي كنيسة فراونكيرشه ذات القباب ليكون رمزا على ما لحق بالمدينة من خراب، إلى أن أعيد بناؤها بعد توحيد الألمانيتين.
أما هيروشيما التي قيل إنه لن تنمو أي نباتات فيها لمدة 75 عاما، فقد تم إحياؤها كمدينة مسالمة بفضل جهود أهلها الذين يعيشون في مدينة مليئة بالزهور والخضرة، إلا أن آثارا ثقيلة خلفتها صبيحة الثامن من أغسطس/آب عام 1945 وتركت بصماتها، ولا تزال، تاريخيا ونفسيا، عبر الأجيال التي سكنت هذه المدينة.
كذلك ستكون غزة، التي حتى وإن تم إعمارها مرة أخرى بعد عقود طويلة في أكثر السيناريوهات تفاؤلا، إلا أنها ستظل مهما مضى من وقت شاهدا على إحدى أكبر جرائم الحروب عبر التاريخ الحديث، وسيظل ما أحدثته الحرب فيها سببا حتى لا يعود أهلها لسابق عهدهم ولا أن تعود هي كما عهدناها، وسيكتوي بنيران ذلك كل من تسبب في إشعالها، وسيظل ما تبقى من أطلال مساجدها التاريخية وكنائس العصر البيزنطي يحكي حول تفرد المدينة في معاناتها مقارنة بغيرها من المدن.
وإذا كان الشاعر الألماني جرهارت هاوبتمان، قد قدم وصفا دقيقا يعبر به عما حل بإحدى مدن بلاده من دمار في نهاية الحرب العالمية الثانية، حين قال: "من نسي البكاء يستطيع أن يتعلمه مرة أخرى عند مشاهدة زوال درسدن"، فهل هناك من الشعراء العرب من هو قادر على تطويع اللغة لتلخيص مأساة غزة في عبارة بليغة واحدة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة