تنبري الكتابات والتحليلات الغربية والإسرائيلية في التأكيد على وجود خيارات، وبدائل للتعامل مع ملف قطاع غزة، رغم أن الحرب في القطاع لم تنته، ولم يتم وقف إطلاق النار بعد.
إن الحديث الاستباقي حول الأولويات الراهنة يحتاج إلى مراجعات وتقييمات حقيقية ومنضبطة، خاصة وأن إسرائيل تتأهب لكل الخيارات والسيناريوهات مع فارق التعامل، أو التعاطي ما بين مشروعات عامة سبق طرحها منذ سنوات طويلة، ويعاد طرحها في إطار جديد تدعو للتهجير، والدعوة لتسكين الفلسطينيين خارج القطاع إلى طرح مقاربات لتعاملات دول الجوار سواء إلى مصر، أو الأردن، وتصفية القضية الفلسطينية من محتواها، وحسم الأمر في إطار مخطط قائم على فكرة الحسم النهائي، وعدم الاستمرار في مخطط إدارة المواجهة، والصراع على مراحل، وتجزئة الخيارات مثلما كان يجري منذ سنوات الصراع السابقة.
ذلك الأمر يؤكد على أن إسرائيل ستمضي في مسار رمي الكرة في ملعب الآخرين من الآن فصاعدا، وقبل أن تنتهي المواجهة الراهنة، والتي تحتاج إلى وقت حيث قد تطول العمليات، وتخرج منها إسرائيل بسلسلة من الخسائر الحقيقية المؤلمة، والتي لن تكون سهلة أو ميسورة في أي من المستويات، الأمر الذي قد يدفع بقوة إلى تحميل إسرائيل تبعات عدة، وتتطلب منها ضرورة العمل على مسارات بديلة، من أهمها إدارة جديدة للقطاع، وتأمين إسرائيل من أية سيناريوهات واردة، وليس فقط إنهاء حكم حماس على الأرض، أو نزع سلاحها، أو التعامل بمنطق الخيارات الصفرية التي تحتاج إلى توافقات، وليس فقط إملاءات على الأطراف المعنية.
ولهذا رفضت دول الجوار ما طرح، وتمسك الجانب الفلسطيني بخياره في بقائه علي الأرض، وعدم القبول بالترانسفير، أو التهجير في أي سيناريو مطروح، ما يؤكد على أن أمام إسرائيل أولويات ملحة هي استعادة الردع، والثقة في الجيش الإسرائيلي، والعمل على إخراجه من المأزق الراهن بعد حالة الانكسار التي عمت قطاعاته، رغم أنه كان يشهد أكبر حركة تطوير كامل في وحداته وقطاعاته، وفقا لخطة تحديث الجيش والتي من المفترض أن تنتهي في 2024، مع العمل على استعادة قدرة الردع في مستويات جبهات المواجهة الأخرى بعد أن تعرضت سماوات إسرائيل للخطر، في ظل وجود دفاعات تحتاج إلى التحديث، ولا تتوقف عند تطوير القبة الحديدية ومنظومة ليزر والسماء الحمراء وغيرها، والتي تحاول إسرائيل تطويرها.
هذا الأمر يؤكد على أن إسرائيل تضع في أولوياتها الراهنة حسم ملفات مهمة؛ منها: الإبقاء على السلام مع مصر والأردن، وعدم تعرض إسرائيل لجبهات جديدة مناوئة مع التركيز على الخطر الآني، وتأجيل الخطر البعيد ممثلا في إيران في ظل ما يمكن أن يطرح من مقاربات تركز على العمل العسكري الممنهج، والتداخل في المهام القتالية، وعدم استبعاد الحشد العسكري، ودفع الأطراف المناوئة لحافة الخطر التي يمكن أن تؤدي لمزيد من المواجهات.
إن إسرائيل تدرك بالتأكيد أن الأولويات الحالية يجب أن تنطلق من إعادة إسرائيل القوية للإقليم، انطلاقا من إسرائيل الجديدة التي تحظى باهتمام دولي ورعاية غربية، وتأكيد على حق إسرائيل في الوجود، وعدم تعريض أمنها للخطر، مع العمل على تكريس استراتيجية الدفاع عن أمن الدولة، وبقائها في محيط إقليمي وعربي مقبول، وبالتالي فإن الأولوية الرئيسة لإسرائيل تتمثل في العمل على استثمار ما يجري، والانطلاق من مقاربة نفعية سواء تجاه الولايات المتحدة، أو بريطانيا من جانب والمعسكر الأوروبي من جانب آخر.
وتتحدث إسرائيل عن البدائل الكبرى، والمناورات المتسعة في المحيط الإقليمي، وتحييد أي مخاطر واردة على أمنها، خاصة بعد أن التزم حزب الله بحدود الاشتباك، كما اتضح من خطاب حسن نصر الله مؤخرا.
وفي ظل خيار الاستمرار في حرب غزة التي يراها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أنها مفتوحة وممتدة، وقد تطول، فإن مهام الدولة العبرية البقاء في معسكر الأقوياء، والحصول على قوة الدعم المطلوبة وتوظيف كل القدرات للوصول إلى هذا الهدف، على اعتبار أن إسرائيل يجب أن تكون في واقع أقوى حتى مع ما جري في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويشير إلى لحظة إخفاق لن تتكرر، ولن يسمح لها بالتكرار وتجاوزها في إطار بقاء الدولة، وتأمين حياتها في الإقليم في مواجهة ما يجري من تحديات حقيقية تريد النيل من إسرائيل.
وفي الأولويات المؤجلة، فان التعايش مع الآخر سيظل مطروحا أي تحديد شكل الدولة، ونمط تعاملاتها الحقيقية، وفي ظل خيارات صعبة ومعقدة ليس فقط مع الجانب الفلسطيني، أو التعامل مع القطاع أو الضفة، وإنما القدرة على التعامل المستمر، وغير المباشر مع جبهة لبنان، والعمل في اتجاه الفصائل الفلسطينية في سوريا والضفة الغربية ومناطق التماس، وهي مخاطر مرتبطة بما يمكن أن يطرح من تصورات جزء منها متعلق ببقاء إسرائيل، خاصة وأن المواجهة الدائرة مع حركة حماس يحكمها ضوابط ومعايير متعددة لم تخرج عن السياق السياسي والأمني والاستراتيجي.
إن إسرائيل تواجه أزمة هيكلية في الذين يتحدثون عن المخاطر المؤجلة والتي تحتاج إلى إعادة ترتيب، والتي ستتعرض لتغيير مؤكد عقب انتهاء الحرب الراهنة في غزة، وما يمكن أن يشير إلى أن فصولا أخرى في إطار المواجهات الحالية، والمرشحة للاستمرار بصورة دورية سيحكمها مسارات أخرى، يجب التوقف عندها، فإسرائيل كدولة تواجه أولويات مستقبلية، وينبغي التعامل معها ، وإلا فإنها ستجد نفسها في دائرة مفرغة.
وإلى حين تحديد أولوياتها المستقبلية، فإن عليها مراجعة حساباتها الكبرى، ومنظومة تقييماتها ليس فقط تجاه محيطها القريب، بل والبعيد الذي يتعرض لأمنها المباشر؛ الأمر الذي يتطلب مراجعة ما يجري من خطط استباقية.
يحتاج المجتمع الإسرائيلي إلى إعادة ترتيب الأولويات، والمهام الكبرى، والتي يمكن أن تحدد البوصلة السياسية والاستراتيجية، ومن ثم فإن إسرائيل التي تعمل في اتجاه الحفاظ على أمنها ، وحسم مسألة حماس وفصائل غزة ستتجه إلى إعادة تعريف الخطر القريب والبعيد، مع رصد مساحات التعامل في دائرة من الخيارات الصعبة التي يمكن أن تعمل فيها، وهو أمر يمكن أن يؤدي إلى تداخل الأولويات الراهنة والمؤجلة، والتي تحتاج إلى وقت لتنفيذها، ويدفع مؤسسات الدولة وقياداتها إلى إعادة النظر في مجمل السياسات للمجتمع من الداخل والذي بات يتشكك في مساراته، ومن الذين يديرون بدون مخطط متماسك.
لهذا تزايدت التظاهرات في شوارع إسرائيل؛ احتجاجا على أداء الحكومة، ما يؤكد أن هدف الدولة العبرية في الوقت الراهن إعادة المواطن إلى الدولة، وبناء سياسة أكثر وضوحا وثقة، وتجاوز عثرات ما جرى في ظل استراتيجية عسكرية تبنى على مرتكزات عملية وتجمع ما بين الآني والمؤجل، لكن مع التوجه لبناء مناعة الدولة مجددا، بالارتكان إلى دعم دولي كبير، ومفتوح على مشاهد مصلحية لإسرائيل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة