سياسة
عندما يخضع الفيلسوف للضغوط.. ارتباك "هابرماس" نموذجا
تحت الضغط، يتصرف أي شخص مهما بلغ علمه، بطريقة مختلفة عن ما يؤمن به، إذ يعيش المرء حالة ارتباك صعبة يمكن أن تقوده لقرارات متخبطة.
مثل هذه الحالة تعرض لها في الأيام الماضية، الفيلسوف الأهم في الدول الناطقة بالألمانية وأحد أبرز العقول في العالم، يورجن هابرماس، بعد ضغوط متعددة الاتجاهات مورست عليه لتحقيق مآربها الخاصة.
ولا جدال أو شك في أن هابرماس "91 عاما" هو أحد القامات الفكرية الأهم في عالمنا اليوم، وقائد لحركة تنوير ومدرسة فكرية أنارت الكثير من جوانب الحياة طيلة أكثر من نصف قرن من الإنتاج الفكري الغزير.
وبدأت الأحداث، بإعلان جائزة الشيخ زايد للكتاب بمركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، في 30 أبريل نيسان الماضي، فوز الفيلسوف الألماني، بجائزة "شخصية العام الثقافية"، وذلك تقديراً لمسيرته الفكرية الحافلة التي تمتد لأكثر من نصف قرن.
وجائزة "شخصية العام الثقافية" من أهم فروع جائزة الشيخ زايد للكتاب وتٌمنح كل عام لشخصية أو مؤسسة بارزة على المستويين العربي أو الدولي، تقديراً لإسهاماتها في إثراء الثقافة العربية إبداعاً أو فكراً، ومنحت حتى الآن لأربع عشرة شخصية ومؤسسة من إحدى عشرة دولة من جميع أرجاء العالم.
وانطلاقا من مكانة الجائزة المرموقة عالميا، قبل هابرماس على الفور هذا التكريم، ولم يظهر أي رفض أو اعتراض أو انتقاد أو تحسب.
ضغوط داخلية
لكن مسار الأمور الهادئ الذي يعكس تقديرا متبادلا، لم يرق للبعض، وبدأ هابرماس يتعرض لضغوط متشعبة داخلية وخارجية، إعلامية ومالية، أدخلته حالة من الارتباك لم يكن يستحقها.
فمجلة دير شبيجل، إحدى أكثر المنصات الإعلامية تأثيرا في ألمانيا، نشرت في اليوم التالي لإعلان فوز هابرماس بالجائزة المرموقة، نقدا لاذعا للفيلسوف دون مراعاة لتاريخه أو إرثه، مرفقا ببعض الأكاذيب حول وضعية حقوق الإنسان في الإمارات.
وعندما نتحدث عن أهم فيلسوف في الدول الناطقة بالألمانية والقارئ النهم، هابرماس، فإن أي إشارة عن عدم إلمام الرجل بقضية ما أو بموقف ما، تبدو غير منطقية ومهينة لهذه القامة العلمية الكبيرة.
لكن "دير شبيجل" حاولت بالفعل تصوير الأمر وكأن هذه القامة الكبيرة لم تكن ملمة بما وصفته بـ"حالة حقوق الإنسان المتراجعة في الإمارات"، وإنها هي من لفتت نظره لها في مقال الانتقاد المثير للجدل الذي شكل ضغطا إعلاميا داخليا كبيرا على هابرماس بالنظر إلى درجة تأثير المجلة وقاعدة متابعيها الكبيرة.
وفي الـ3 من مايو أيار الجاري، حصلت المجلة على حق الإعلان الحصري لتراجع هابرماس عن الجائزة، وعبر بيان لدار النشر التي تمثل أعماله، ليس عبر بيان شخصي منه مباشرة، ما يثير الكثير من الحبر.
بعدها بساعات، نشرت المجلة نفسها مقال احتفاء بتراجع هابرماس، قالت فيه بوضوح إن "الفيلسوف الألماني تراجع عن قبول الجائزة المرموقة بعد مقال دير شبيجل الناقد".
وكتبت المجلة في مقال الاحتفاء "هذا النقد ذو الأسس السليمة هو شكل من أشكال الاحترام لا ينبغي أن يكون غريبا على يورجن هابرماس"، مضيفا "لقد تعامل الفيلسوف اليوم مع انتقاد واضح ومحترم قدمته دير شبيجل، بطريقة تكرمه".
لكن يبدو أن المجلة أدركت خطأ الاعتداد بمقالها الناقد فقط في مسألة تراجع هابرماس، وكتبت في الفقرات التالية "التراجع قرار قوي وشخصي ويستحق التصفيق"، متسائلة "ما هو الضغط الذي يمكن أن تخلقه مقالة واحدة على موقع شبيجل؟".
وتابعت "هناك تفسير أفضل لتراجعه الشجاع: أظهر هابرماس نفسه منفتحًا على المعلومات والحجج الجديدة - وهو أمر يجده كثير من الناس صعبًا"، وكأن المجلة تريد إيهام العالم أن رجلا في قامة هابرماس لم يكن ملما بالإمارات ونظامها وما يحدث في الشرق الأوسط عندما قبل الجائزة أول مرة قبل تراجعه بـ3 أيام فقط.
كما أن نشر مقال انتقاد قبول الجائزة ثم بيان التراجع عنها ومقال للاحتفاء على منصة واحدة أمر يثير كثيرا من علامات الاستفهام، ويظهرها في ثوب متصدر الضغوط التي مورست على الفيلسوف الكبير داخليا وإعلاميا، للتراجع.
ويضاف إلى ذلك موقف دير شبيجل من الإمارات، ففي 21 صفحة على موقعها الإلكتروني تجمع كل الأخبار المتعلقة بالإمارات، تتناثر العديد من تقارير الانتقاد والهجوم على الدولة الناجحة، بدون أن تسمح لأبو ظبي حتى بالرد في نفس المساحة المتوفرة للانتقادات.
لكن حديث البعض عن ضغوط مورست على هابرماس على خلفية ارتباطه بالنظام النازي في فترة أدولف هتلر، غير منطقية ولا تبدو حقيقية على الإطلاق، فالفيلسوف الكبير اعترف بنفسه بأنه كان أحد أعضاء فرقة شبيبة هتلر عندما كان مراهقا في سن الـ15 عاما، واتخذ خطا فكريا معاديا تماما للفكر النازي، وطويت هذه الصفحة على كل المستويات.
ضغوط خارجية
في المقابل، برز نوعية أخرى من الضغوط التي تعرض لها هابرماس، تتمثل في علاقة سلسلة الترجمات التي تحمل اسم "ترجمان" وتتبع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومديره عزمي بشارة المقيم في الدوحة مع الفيلسوف ودار النشر الألمانية المالكة لحقوق منشوراته.
ففي 16 مايو أيار 2020، نشرت سلسلة "ترجمان" الترجمة العربية لكتاب "نظرية الفعل التواصلي" ليورغن هابرماس، واحتفى بشارة نفسه بصدور الترجمة على حسابه بموقع فيسبوك في نفس اليوم.
وترتبط هذه العلاقة بين بشارة ومركزه ومصالحها الضيقة من ناحية، وهابرماس ودار النشر المالكة لكتبه من ناحية أخرى، بتعاملات مالية ومشاريع ترجمة مستقبلية، ما يمثل ورقة ضغط خارجية ومالية قوية على الفيلسوف الألماني.
ولا يمكن نزع تراجع هابرماس من السياق السياسي الحالي في ألمانيا، إذ تنشط التنظيمات المرتبطة بالإخوان الإرهابية وغيرها من أبواق الإسلام السياسي، وتملك تمويلا ومساحة حركة كبيرين، وأبواقا إعلامية وسياسية، ما يمكنها من تحريك الأمور هنا وهناك وفق مصالح ضيقة.
وفي حالة شد خطوط بين هذه النقاط، فإن التصور الأقرب للحقيقة يتمثل في أن هابرماس تعرض لضغوط إعلامية ومالية كبيرة من دير شبيجل وجهات خارجية لتغيير موقفه والتراجع عن قبول الجائزة، لكن هذا لا يقلل منه كأحد أعظم العقول في العالم.
في المقابل، أظهر القائمون على الجائزة كل الاحترام والتقدير للرجل في بيان الرد على تراجعه، إذ عبروا عن الأسف لتراجعه عن "قبوله المسبق للجائزة"، و"احترام قراره" انطلاقا من أن الجائزة تجسد "قيم التسامح والمعرفة والإبداع وبناء الجسور بين الثقافات".
لكن الفيلسوف الألماني لم يجن من هذه الضغوط وقراره التراجع عن الجائزة، غير حالة الارتباك التي أٌدخل فيها عمدا، وارتهان مسيرته العلمية الحافلة للضغوط ومصالح ضيقة.
aXA6IDMuMTQ1LjEwMi4xOCA=
جزيرة ام اند امز