أغلب إن لم يكن كل أجهزة المخابرات العالمية لم تستطع التنبؤ بما يواجهه العالم في الوقت الراهن من تحديات غير مسبوقة
تحاول أجهزة المخابرات العالمية تأكيد حضورها السياسي والأمني بل الإنساني في قلب أزمة كورونا، من خلال دورها في التعامل مع كارثة باستحضار المعدات والأجهزة الطبية من دول العالم وإبرام صفقات طبية، والسعي للتوصل إلى اللقاح المطلوب بصورة مشروعة أو غير مشروعة، وهو ما برز بوضوح في تحركات أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية والصينية والفرنسية والتركية.
والصراع هنا يتم على المعلومات أولا، ومنها الانطلاق نحو البحث عن دور وتأكيد وتجميد الدور، في ظل استعانة أغلب دول العالم بالاعتماد على الجيوش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في إدارة الأزمة والتعامل مع منطلقاتها وأطروحاتها، ولكن هذا الدور الذي يراه البعض أنه جديد على أجهزة المخابرات، هو في صلب مهامها ودورها التقليدي، وأنه لا يوجد جديد أو قفز على الأدوار بالمعنى المتعارف عليه لعدة أسباب.
أغلب إن لم يكن كل أجهزة المخابرات العالمية لم تستطع التنبؤ بما يواجهه العالم في الوقت الراهن من تحديات غير مسبوقة
الأول: أن تغير مهام ودور أجهزة المخابرات الدولية بدأ منذ سنوات عدة، وأن أغلب الأجهزة تطورت مهامها للعمل في دوائر من العلانية والإعلام بديلا عن السرية والتكتم، وأنها دخلت في مرحلة مهمة من ممارسة الدبلوماسية والاتصال بصورة مشروعة، وأن أغلب أجهزة المخابرات أصبح لها دور سياسي واجتماعي بل اقتصادي في إطار تحصين الجبهات الداخلية، وتأكيد دورها في حماية الداخل، وما يتعرض له من أي أزمات طارئة، وهو ما دفع بقوة لظهور دورها في أزمة كورونا، وسيتضح لاحقا في عصر ما بعد التهديدات فوق التقليدية التي تؤكد حقيقة أننا أمام متغيرات حقيقية تعلن عن نفسها في المحيطين الإقليمي والدولي.
الثاني: أن أغلب إن لم يكن كل أجهزة المخابرات العالمية لم تستطع التنبؤ بما يواجهه العالم في الوقت الراهن من تحديات غير مسبوقة؛ حيث لم يكن هناك تحذير حقيقي ومعلن من مغبة ما يجري، بدليل أن التقارير الإعلامية والسياسية التي تصدرها أجهزة المخابرات الدولية لم تقيم أو تحلل ما جرى أو حتى تضمن إشارات معلنة إلى حروب الفيروسات الجديدة، أو مواجهة الحرب البيولوجية التي يمكن أن تعلن عن نفسها في الفترة الراهنة والقادمة.
على الرغم من أن بعض هذه التقارير الدولية كتبت إلى عام 2030 و2035 وبعضها إلى 2050، لنكتشف أن ما كتب لم يتضمن إشارات ولو أولية عما يجري، وبالتالي ليس صحيحا أن مجلس الاستخبارات الأمريكي الذي يعد واحدا من ضمن 17 جهاز استخبارات أمريكيا تعمل على مهام داخلية وخارجية قد رفعت تقريرا للرئيس الأمريكي ترامب تحذر فيها من تداعيات ما يجري، وأن الرئيس ترامب أهمل هذا التحذير، وإن كان الأمر يفهم في إطار محاولة جهاز الاستخبارات المركزية في تأكيد دوره الذي لم يحدث.
الثالث: سيكون من الآن فصاعدا الحديث عن احتمالات تغيير مهام أجهزة الاستخبارات العالمية بصورة أشمل مما جرى بصورة كبيرة ومدى حدوث التغيير المتوقع، خاصة أن أغلب الأجهزة خاصة الصديقة كانت تبادل معلوماتها وبياناتها، خاصة التي تجري حول العالم.
والسؤال: هل سيتغير الأمر أم أنه ثمة تطورات جارية؟ والإجابة المباشرة لن يكون هناك تعاون منشود بالمعنى المعروف أو الذي يتمناه العالم من أجل استمرار الإنسانية، بدليل استمرار حالة الشد والجذب بين الولايات المتحدة والصين ودخول ألمانيا على الخط، كما أن اليابان ليست بمنأى عما يجري.
ومن ثم فإن تعاون أجهزة الاستخبارات العالمية لمواجهة أي تحديات جديدة لن يحدث، خاصة أن الدول الكبرى والصغرى معاً ستتجه لمزيد من الانغلاق، في إطار مراجعة فكر العولمة والتعاون العلمي والطبي، وهو ما ينذر بالفعل باستمرار حالة المواجهات غير المباشرة، وليس التعاون من أجل التوصل لاستراتيجية مجابهة حقيقة التحديات غير المسبوقة، في ظل اتهام الدول الكبرى لبعضها بالمؤامرة والتآمر، وعدم وجود شفافية حقيقية يمكن البدء منها، وإلا ما كان الرئيس ترامب أشار بقوة إلى مؤامرة الصين الكبرى في ظل اتهام منظمة الصحة العالمية بالتواطؤ والتآمر، فيما يجري بدليل عدم السماح للمفتشين الأمريكيين بالتدخل وزيارة بعض المواقع والمختبرات المشتبه فيها، التي أشارت المصادر الأمريكية إلى أنها وراء ما جرى ويجري.
في كل الأحوال ستعمل أجهزة الاستخبارات العالمية على مهام ربما أكثر ضبابية، وهو ما سيتطلب إعادة النظر في تجنيد آلاف العناصر، وبناء شبكات حية للمصادر وجمع المعلومات وإنشاء السواتر الأمنية والسياسية والاقتصادية للعمل خلفها، وهو ما يوصف بأنه ضمن المهام التقليدية لأجهزة المعلومات في العالم، التي لن تقتصر فقط على الولايات المتحدة أو الصين بل ستمتد إلى دول كبرى وصغرى معا.
فالصراع على المعلومات سيكون بالأساس صراعا دائما، ولكن أي معلومات ستكون مطلوبة وملحة في إطار ما يجري، ستكون المعلومات الطبية والصحية والأسلحة البيولوجية والجراثيم المستجدة والتهديدات غير المرئية، إضافة لتحديد الأولويات في إشكالية الأمن الدولي الإنساني ليتوارى لبعض الوقت الاهتمام بالقضايا الأخرى.
الخلاصة أن ثمة تغييرات هيكلية حقيقية ستجري داخل أجهزة الاستخبارات الدولية، ولننتظر لنرى كيف سينعكس الصراع القادم على الوصول للهدف الثمين الذي سيكون بالأساس خريطة ما يستهدف الإنسان وبقاءه، وليس الدولة ككيان قائم ومستمر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة