نتائج الانتخابات الإسرائيلية.. دلالات توازن الضعف
الحالة السياسية الراهنة في إسرائيل بعد انتخابات الكنيست تبدو مختلفة وتنطوي على تعقيدات كبيرة وعميقة تستحق البحث.
مفهوم "توازن الضعف" المضمن في عنوان هذا المقال، قدمه عالم السياسة والقانون الدستوري الفرنسي الراحل "موريس دوفرجيه"، من خلال متابعته التحليلية لتطور النظام السياسي والدستوري للجمهورية الخامسة الفرنسية؛ عندما أسفرت الانتخابات التشريعية التي جرت في الثمانينيات وكان رئيس فرنسا آنذاك الاشتراكي "فرانسوا متيران" عن فوز اليمين الليبرالي بالأغلبية البرلمانية التي يحق لها أن ترشح من بينها رئيسا للحكومة وهو جاك شيراك في هذه الآونة وأطلق على ذلك التعايش بين الرئيس الاشتراكي ورئيس الحكومة المنتمي لليمين.
الانتخابات الإسرائيلية للكنيست الثانية والعشرين أسفرت عن "توازن الضعف"، ولعل ذلك أبرز نتائجها، حيث لم تسفر هذه الانتخابات عن فوز حاسم لأحد التحالفين الكبيرين الليكود بزعامة نتنياهو "32" مقعداً وأزرق أبيض بزعامة بيني جانتس "33" مقعداً، بالإضافة إلى ذلك فإن أياً من هذين التكتلين ليس قادراً بمفرده ومن خلال تحالفه مع الأحزاب التي تنتمي لمعسكره، على الحصول على أغلبية "61" مقعداً اللازمة لتشكيل الحكومة، وذلك لا ينفي بطبيعة الحال أن تحالف أزرق أبيض قد تفوق على تحالف نتنياهو ووضعه في موقف سيئ.
ونتيجة لهذا التوازن الذي يرتكز على الضعف فإن الأفق السياسي لأزمة تشكيل الحكومة الإسرائيلية من المحتمل أن يمر عبر حكومة وحدة وطنية بين هذين التكتلين بمشاركة حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يتزعمه أفيغدور ليبرمان الذي يفضل تشكيل مثل هذه الحكومة لقطع الطريق أمام الأحزاب الدينية المتطرفة للدخول في هذه الحكومة.
ولا شك أن هذا الطريق محفوف بالصعوبات، من بينها صعوبة قبول تحالف أزرق أبيض للمشاركة مع نتنياهو في حكومة وحدة، إلا إذا تمكن الليكود من اختيار زعامة بديلة، يمكن التعامل معها كذلك فإن نتنياهو يبدو أنه المستفيد الأكبر من تشكيل هذه الحكومة لأنها قد تؤجل محاكمته إلى حين، من ناحية أخرى فإن تحالف أزرق أبيض لن يكون بمقدوره تشكيل حكومة دون الليكود، إلا إذا استعان بتأييد القائمة العربية المشتركة وقد يفتح ذلك الباب للتشكيك في توجهاتها وصهيونيتها، بالإضافة إلى العديد من التعقيدات التي تحيط بإمكانية تشكيل مثل هذه الحكومة.
غير أن توازن الضعف في الحالة الفرنسية المشار إليها يختلف كثيراً عن الحالة الإسرائيلية، ففي الأولى أي الحالة الفرنسية فإن هذا التوازن كان يعكس تعادلاً في القوة الانتخابية والاجتماعية والسياسية للتيارين الكبيرين في الحياة السياسية الفرنسية الاشتراكي والليبرالي على الأصعدة كافة الثقافية والفاعلية والقواعد الانتخابية وتقاسم النفوذ والتأثير وتعادل الرؤى والتصورات السياسية والأيديولوجية.
دلالات توازن الضعف في المشهد الإسرائيلي
أما في الحالة الإسرائيلية فإن توازن الضعف الذي أسفرت عند الانتخابات، يحمل أكثر من وجه، الأول منها تعادل نسبي بين التحالفين الكبيرين بفارق صغير من حيث القوة التمثيلية الانتخابية رغم خسارة اليمين لآلاف الأصوات، بينما الوجه الآخر لهذا التوازن هو تمكن اليمين من خلال حكمة ترويج مفاهيمه ومفرداته السياسية والدينية مثل الاستيطان والدولة القومية للشعب اليهودي وضم المستوطنات والكتل الاستيطانية بل وأخيراً ضم وادي الأردن للسيادة الإسرائيلية، وهو الأمر الذي أفضى إلى سيادة الأيديولوجية اليمينية القومية والدينية وإحداث تغيير جذري في المزاج العام الإسرائيلي حتى أصبح المجتمع الإسرائيلي يتجه أكثر فأكثر لليمين ويخطو بخطوات واسعة نحو التشدد والتطرف.
ولم يسلم تحالف أزرق أبيض من هذا المناخ، حيث تميز برنامجه بالغموض وتوقف عن استخدام مفاهيم الاحتلال للأراضي الفلسطينية ووعد بعدم تكرار الفصل من جانب واحد، وتجنب الدخول في الحديث عن الدولة الفلسطينية وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
من بين أبرز دلالات هذا التوازن الذي أسفرت عنه انتخابات الكنيست الثانية والعشرين، يبرز على نحو خاص غياب البديل لمنظور الليكود وتحالف اليمين الديني والقومي للتسوية مع الشعب الفلسطيني، وعدم تمكين التحالف المناوئ لليكود من اختراق سقف التسوية مع الفلسطينيين والتزام الصمت حول حدود هذه التسوية، بل الأكثر من ذلك مجاراة رؤية اليمين بلغة مختلفة ملونة بالأزرق والأبيض ومغلفة بحفظ وحدة إسرائيل وعدم استمرار الانقسام في صفوف الإسرائيليين.
يقتصر الخلاف بين رؤية التكتلين للتسوية حول الأساليب والتكتيكات، ولكن فيما يبدو يتفق حول المبادئ الموجهة لها والحاكمة لتفاعلاتها، تلك التي تتمثل في أمن إسرائيل والحفاظ على المستوطنات والاحتفاظ بتفوق إسرائيل في محيطها الإقليمي والإبقاء على الجولان تحت السيادة الإسرائيلية والاحتفاظ بالقدس الموحدة تحت السيادة الإسرائيلية.
سقف يميني للتسوية مع الشعب الفلسطيني
من ناحية أخرى فإن توازن الضعف الذي نجم عن هذه الانتخابات يشير إلى تبلور قاسم مشترك أعظم بين التحالف الحاكم بزعامة الليكود والتحالف المناهض، حول خطوط وحدود التسوية مع الشعب الفلسطيني، وأن هذا يتمثل في تجنب الاعتراف بدولة فلسطينية وتآكل حل الدولتين والاتجاه لتقاسم الضفة الغربية مع الفلسطينيين وإخراج القدس من التفاوض، وهي الخطوط التي استوعبها المجتمع الإسرائيلي والرأي العام الإسرائيلي وانعكست في مواقفه الانتخابية من هذين التحالفين.
ذلك أن الآليات والإجراءات والقوانين العنصرية التي تم إقرارها خلال سنوات حكم اليمين أرست ورسخت واقعاً قد يصعب القفز فوقه إلا إذا توفرت الشجاعة والجرأة الأخلاقية والمواجهة الحاسمة مع الذات وإعلام الرأي العام الإسرائيلي بحقيقة المعطيات والمواقف وطبيعة إسرائيل العنصرية والأخلاقية، وهي أمور يبدو أنها غير واردة حتى الآن ويعزز من ذلك الخلل المتزايد في موازين القوى السياسية والعسكرية بين إسرائيل والشعب الفلسطيني بل إسرائيل ومحيطها العربي، حتى أصبح منظور التسوية يتوقف فحسب على ميزان القوى دون أي اعتبار للقرارات الدولية أو الشرعية الدولية أو المعايير الأخلاقية والإنسانية وهي المفردات التي تم تجنبها وتهميشها ولم تعد تلعب دوراً أساسياً في التوجه للتسوية.
إزاحة نتنياهو وبداية النهاية
ومع ذلك فإن توازن الضعف الذي أسفرت عنه الانتخابات لم يقتصر تأثيره على تقلص آفاق التسوية وغموض حدودها ومعالمها وإنما امتد ليؤثر في وضع رئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال في إسرائيل "بنيامين نتنياهو"، فقد نجم عنه إزاحة تقريبية له بمعنيين أولهما عدم تمكنه ومعسكره من الحصول على المقاعد الضرورية لتشكيل الحكومة، أما ثانيهما فتتمثل في توفر إمكانية إزاحته من المشهد السياسي في إسرائيل خاصة مع صعوبة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي يبدو أنها حبل النجاة الأخير التي يعرف التحالف المناوئ له مغزى تمسكه بها، واقتراب موعد جلسات الاستماع مع بداية أكتوبر المقبل واحتمال محاكمته ومواجهة مصيره من خلال قضايا الفساد الثلاث المتهم بها.
ومع ذلك فإن رحيل نتنياهو عن المشهد السياسي في إسرائيل يبدو أنه لا يعني غياب تأثيره وأيديولوجيته التي ساهمت في تحول المزاج العام الإسرائيلي والرأي العام الإسرائيلي بل ونخبة الحكم في إسرائيل باختلاف مواقعها في اليمين أو يمين الوسط أو الأحزاب اليسارية أو الدينية وفي القواعد الاجتماعية لهذه الأحزاب في المستوطنات والمراكز الحضرية والريفية.
القائمة العربية المشتركة في موقع المعارضة
يبقى بعد ذلك أن الملمح الأبرز في هذه الانتخابات هو حصول القائمة العربية المشتركة على 13 مقعداً في الكنيست، وهو ما يمكنها من تزعم المعارضة في الكنيست وهو ما يعني انخراطها في الدوائر الأمنية والسياسية الإسرائيلية، عبر تلقيها التقارير الأمنية والمشاورات الشهرية مع رئيس الحكومة ومقابلة المسؤولين الأجانب، لدى زيارتهم إسرائيل وهي وضعية غير مسبوقة في تاريخ الكنيست الإسرائيلي قد يكون لها تأثيرها في السياسة الإسرائيلية، إلا أن فشلت مشاورات تشكيل حكومة الوحدة.
ورغم أن متابعة تاريخ الانتخابات التشريعية في إسرائيل ووفق النظام الانتخابي المعمول به تشير إلى عدم فوز أي من المعسكرات أو الأحزاب الإسرائيلية بعدد الواحد والستين مقعداً اللازمة لتشكيل الحكومة، فإن الحالة السياسية الراهنة في إسرائيل بعد انتخابات الكنيست الثانية والعشرين تبدو مختلفة إلى حد كبير وتثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الأجوبة وتنطوي على تعقيدات كبيرة وعميقة تستحق البحث، مقارنة حتى بتجربة حكومات الوحدة الوطنية في الستينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ما يظهر على السطح من هذه التعقيدات هو غياب معارضة حقيقية لتوجهات اليمين القومي والديني السياسية والأمنية تجاه قضية الشعب الفلسطيني كذلك ينخرط في هذا السياق الوضع الصعب لرئيس وزراء حكومة تسيير الأعمال واتهامه بالفساد والقضية التي تعترض طريقه حتى في حالة تشكيل حكومة وحدة بتناوب على رئاستها مع جانتس خاصة لو أصر الأخير على توليه رئاسة الحكومة أولاً ولمدة عامين يحتمل خلالهما تحديد وضع نتنياهو وتعرضه للمحاكمة وفي هذه الحالة يصعب إنجاز اتفاق التناوب، وذلك بالإضافة إلى تواتر الحديث عن تشكيل حزبين كبيرين على غرار الحزب الديموقراطي والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية تجنباً للائتلافات المعقدة وابتزاز الأحزاب الصغيرة في اليمين أو في اليسار أو على صعيد الأحزاب الدينية.
aXA6IDMuMTMzLjEzOC4xMjkg جزيرة ام اند امز