عادة قديمة في مجتمعاتنا لا يُعرف لها أصلٌ، وهي تولّي الأجداد مسؤولية الاعتناء وتربية واحد أو أكثر من أحفادهم، في حياة آبائهم وأمهاتهم.
فقد جرى العرف في مجتمعاتنا أن تتولى الجدّات تربية أحد أحفادها، فنجد في كثير من العائلات الحفيد يقيم في منزل جدته، ولا يعرف لنفسه بيتًا سواه ولا سكنًا غيره.
وقد خلقت هذه العادة نوعًا جديدًا من العلاقات في المجتمع، وهي علاقة الجد والجدة بالحفيد، بعدما تحولا إلى مقدم الرعاية الدائم له.
وبحسب علم النفس فإن هذه العلاقة تقدم للأطفال تجربة مختلفة وتحدياتٍ جديدة لا يواجهها الأحفاد الذين يعيشون مع آبائهم ويتلقون الرعاية منهم، وفق ما ذكرت الأستاذة بجامعة كورنيل "راشيل دنيفون" في مقالها المنشور في "الأكاديمية الأمريكية للسياسة والعلوم الاجتماعية".
هناك أسباب متعددة لانتشار هذه العادة، أبرزها قلة الموارد المالية بين الطبقات الفقيرة، أو نتيجة لعدم استقرار الأسرة واضطراب الأحوال الاجتماعية للوالدين، ومنها أيضًا ما يتعلق بتعلُّق الطفل بجده وجدته، أو تعدد أحفادهما ورغبتهما في تخفيف الحمل عن أبنائهما، خاصةً في ظل ظروف اقتصادية صعبة واضطرار كثير من الأمهات للعمل والغياب عن البيت، وربما السفر لسنوات طويلة.
هنا يبدأ ما يسمى "تضارب مشاعر" لدى الطفل الذي يعيش هذه التجربة مجبرًا.
وإذا كانت أسباب انتشار هذه العادة تختلف وتتنوع بين العاطفي والمادي، فإن تبعاتها وتأثيراتها على الطفل تكاد تكون متشابهة، وأولى هذه التبعات اضطراب مشاعر الطفل تجاه أبويه، فالطفل لا يعي معنى الأم والأب إلا من خلال تربيتهما له، وعليه يحدث بداخله صراع مصيري وهو في سنّ الطفولة، لا يعرف لمن يقول "أبي" ولمن يقول "أمي"، بل يصعب عليه أيضًا الحديث مع أبويه والإفصاح عما بداخله لهما.
وهكذا الحال في علاقته بإخوته، إذ يجد نفسه وحيدًا بينهم، هم يتقاسمون الأسرار والعادات، وحتى في كثير من الأحيان الأنماط السلوكية، أما هو فلا يتقاسم معهم أيًّا من هذه الأشياء، هو في نظرهم ضيف يمكث ساعاتٍ ثم يرحل إلى بيته، وإذا ما كان في مدرسة واحدة مع إخوته يلحظ معلمو المدرسة الاختلاف الكبير بينه وبينهم فيتعجبون لذلك: كيف لإخوة من بيت واحد ولأب واحد وأم واحدة يختلفون هذه الاختلافات الصارخة؟!
لا ينكر أحد أن في كثير من الأحيان تختلف الأنماط الفكرية والأخلاقية لدى الأبناء، الذين تربَّوا في كنف أجدادهم عمّن في مثل أعمارهم، إذ نجدهم ذوي حس عالٍ في تحمل المسؤولية منذ سن صغيرة، وهو ما يؤكده "ميغان إل دولبين ماكناب" و"برادفورد دي ستوكي"، المتخصصان في العلاقات الأسرية، في كتاب لهما، إذ يقولان إن تربية الأجداد للأحفاد ارتبطت بعدد من الفوائد لهم، أبرزها: السعي في الحفاظ على علاقات ممتدة مع أفراد الأسرة، وترسيخ الهوية الثقافية والروابط المجتمعية، كما يحظون بنتائج صحية وسلوكية وعقلية أفضل من غيرهم.
ومع كل العطف والحنان اللذين يشملان "ابن الجد والجدة" وهو في كنفهما تنقلب حياته إلى غَمٍّ كامل حينما يفقد أحدَهما أو كليهما إلى الأبد بفعل الموت، إذ يفقد معهما منبع الأمان والحماية، فهو لا يعرف سواهما.. كأنه فقد بوصلته في الدنيا.. كأنه دخل في التيه.
ويشتد الألم حينما تكون الجدة هي الراحلة، فهي بالنسبة إليه مهما شبّ أو كبر المعنى الوحيد للحياة.. ليظل غارقًا في ذكرياتها وما قدمته له، ويقارنها بالغير، فتنتصر هي دائمًا عمن سواها -حتى أمّه- في هذا العالم الذي اتسع عليه فجأة وضاق به في آنٍ.
لقد فقد يدها الدافئة وصوتها الذي يؤنسه ولمساتِها التي تُغنيه وتحتضنه وتؤمّن له وجوده.. فيظل يسمع صوتها تناديه حتى بعد رحيلها، يستيقظ كل يوم على صوتها.. تصاحبه في كل تفاصيل حياته كأن روحها رفضت مفارقته كما فعل جسدُها.
لا يدرك أحد المرارة التي يشعر بها هذا الحفيد حين يجد الآخرين يتحدثون عن جدته/وجوده كفعل ماضٍ، هو لا يزال يعيشها حاضرًا في حاضره، لكن يبقى لديه سؤال يحاصره: "لمن تركتني ورحلت؟".
وبعد أن ينتهي العزاء ويعود كل إلى بيته يجد ذاك الحفيد نفسه وحيدًا لا يعرف له بيتًا، فالبيت الذي كبر فيه وحملت جدرانه ذكريات فرحه وترحه وصحته وسقمه وأيام عمره، قد صار ميراثًا لأبناء الجدة الراحلة، وحان وقت توزيعه وتقسيمه، وكذا تقطيع هذا الحفيد بين مكان ولا مكان.. فيُقال له عُد إلى بيت أبيك وأمك! أهي عودة فعلا أم منفّى؟
هو لم يعتد أبويه.. لم يعرفهما.. لم يدرك إلا نهر جدَّيه الذي جفّ به الواقع، لكن خيال الحفيد لا يزال يحتفظ بصورة حية لهما كعلامة أخيرة على بقائه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة