في العاشرة صباحا بدأت الحرب فوق رأسه مباشرة. صار النوم كابوسًا لا يُحتمل. زخّات المطر استحالت رصاصا طائشًا يفتك بالعُزّل ممن أَوَوا إلى أعالي الجبال وقت الفيضان العظيم. هو آمِنٌ حتى حين.
"ما أقسى انتظار موت محتوم"!
كتبها وعلّقها أعلى الباب المواجه للسرير قبل أربع أو خمس سنوات.. لا يتذكّر.. هي إيمانه الذي لا يتعزز.. "موت وشيك بيدي أو بماء السماء".
قبل السنوات الخمس، ضرب القرية إعصار عنيف ابتلع الناس والبيوت ولم ينجُ منه سواه وصديقه الذي عَرَف بنجاته قبل سنتين فقط.
أيقظه عدو البشر الأول، والذي عجزوا عن محاربته ولم يبق في أيديهم سوى التوسّل إليه ليل نهار بتركهم وشأنهم: "اللعنة على المطر!"، قالها ونزل عن مرقده، وجلس أمام المدفأة ساعة أو ساعتين.
لمدة ستة أشهر في كل سنة، يعيش وحيدًا في بيت بَناهُ أعلى قمة جبل يرتفع 500 متر، يأنس خلالها بمذياع قديم قاتل لأجل أن يحميه من مياه الفيضان، يعتمد بثُّه على الأقمار الصناعية.
"صباح الخير على مستمعينا، إليكم عناوين النشرة الصباحية: أمريكا تبني برجا جديدا يتألف من 300 طابق، الطوابق الـ250 الأولى كما هو معروف خالية، والأدوار الخمسون العلوية سيُجرى عليها مزاد، وهي الطوابق التي تعلو السحاب وتضمن لقاطنيها حياة هانئة طوال العام بعيدا عن ويلات المطر وظلام الغيوم الدائم.. تعاون روسي-صيني لبناء مدينة جديدة فوق قمة إفرست، وسعر الوحدة السكنية يبدأ من مليار دولار.. شركة deep sea adventure تعلن عن مغامرة لا مثيل لها لاستكشاف قلعة قايتباي الغارقة في الإسكندرية.. انتهت النشرة، نتمنى لكم يوما سعيدا".
"حياة فوق الغيوم بلا مطر ولا سيول ولا أوحال ولا عزلة. ترى الشمس طوال العام". حدّث نفسه بحلم الملايين ثم ألقى نظرة على الجبل الموحش، وبصق على الأرض وتكوّم أمام المدفأة.
تفحّص خزانته شبه الفارغة، لم يجد سوى كسرة خبز وسيجارة أخيرة وعُلبة جُبن، حدّث نفسه: "متى يأتي المدد؟"، ثم تذكّر أن اليوم هو الثامن والعشرون من فبراير، فارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة.
من بعيد أتاه أزيز محرك الطائرة المروحيّة، لمحها وهي تشق الغيوم. "ها قد جاء المدد". هُرع مسرعا إلى الخارج وكان المطر لا يزال يعزف سيمفونية كئيبة على نفسه، نظر إلى أعلى وهو يدعو ألا تخطئ الطائرة هدفها هذه المرة وشَرَع في التلويح بقطعة زجاجية تعكس ضوء الشمس الشحيح.
دقائق قليلة مرّت كالدهر قبل أن يقع بالقرب منه صندوق المُؤْنة "ضالته المنشودة".
لوّح شاكرًا إلى طائرة النجاة. الحكومة المركزية لا تزال تفرض سيطرتها على البقاع كلها وتُغيث قاطني الجبال بما يكفيهم للبقاء على قيد الحياة.
في عام 2030 دفع العالم ثمنا باهظا للخطيئة الكبرى. لم يُعِر أحدٌ صرخات الأرض أي اهتمام. انبعاثات الكربون في أعلى مستوياتها، صواريخ الحرب العالمية تدك البلاد من أقصى الكوكب إلى أدناه، الغابات تحترق، السيول تجري بلا هدى ولا مصب، حتى كان الفيضان العظيم فابتلع ثمانية مليارات إنسان ونجا اثنان، حتى حين.
في الأشهر الستة الأخيرة -من سبتمبر حتى فبراير- سجّل الأحداث الكبرى التي شهدها. في إحدى الليالي كاد المطر يخلع سقف البيت. وفي أخرى استغاث به ذئب هزيل فتركه يصارع الموت. وفي ثالثة وقف على حافَة الجبل ولم يقْوَ على تنفيذ قراره بالانتحار.
"عندما تجف الأرض سأذهب إلى صديقي في جبله لأقصَّ عليه تلك الوقائع. هو بلا راديو ولا أنيس، ويشتاق إلى سماع حكايات الخطر والأحلام السخيفة. حتما لديه هو الآخر ما يمكن أن يسلّيني في أشهر وحدتي المنتظرة".
عاد إلى البيت وعثر على حبل غليظ، وفي تمرُّس وإتقان اكتسبهما من وِحدة الجبل أدخل "صندوق بابا نويل" -هكذا يسميّه- فتّش في المُؤنة الجديدة عن علبة سجائر فدخّن 20 في ساعة واحدة. والتهم 5 أرغفة وعُلبتي جُبن، ثم نام.
في الصباح التالي كانت الغيوم قد بدأت في الانقشاع واتخذت الشمس موضعها في كبد السماء. ساعات قليلة من الحرارة اللاهبة كانت كافية لحرق الأرض الموحلة. جهّز عُدّته ودسّ في حقيبته الحذاء الحديدي الذي يعينه لعبور الطريق الزلقة إلى الجهة المقابلة.
وصل إلى وجهته بعد عناء طويل وتنفّس الصعداء عندما رأى صديقه لا يزال حيًّا ثابتا لم تهزمه المياه القاتلة. أزاح عنه الطين بقارورة ماء ومسح وجهه بخرقة بالية.
تعرّف إليه قبل سنتين وستة أشهر فقط. "هنا يرقد الجندي جون مايكل من كتيبة المشاة رقم 2 بالجيش الأمريكي".
لم يكن صديقه سوى شاهد قبر لجندي مات في الحرب العالمية، لا يعرفه، ولا يعرف كيف عاش وكيف مات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة