أجرت جامعة كاليفورنيا في أمريكا دراسة ميدانية قبل سنوات أكدت نتائجُها أن نغمة الضحك تشير إلى المكانة الاجتماعية للضاحكين، ما قد يُسهّل معرفة الوضع المادي لشخص يضحك أمامك في الشارع.
وتفصيليًّا، أفادت الدراسة بأن ضحكة أساطين المال والأثرياء تمتاز بمساحات واسعة وتردُّدٍ عالٍ وأكثر تنوعًا "هاهاهاها"، فيما يحظى أصحاب المهن الأقل في السُلّم الاجتماعي بضحكة متقطعة وقصيرة تميل للخضوع "هي هي هي هي"، مُعلّلين ذلك بالحالة الشعورية للأغنياء، والتي تنعكس على سلوكهم غير اللفظي.
لكن ما الضحك؟، ولماذا نضحك؟
الضحك هو أحد الجوانب المميزة للسلوك البشري، ويمتلك تاريخًا ممتدًّا في ثقافتنا الإنسانية، لذلك اهتم به الفلاسفة مثل أفلاطون، سقراط، أرسطو، كانط، الجاحظ، وغيرهم.
وأشار خبراء فيسيولوجيا الضحك إلى سبب ضحكنا، وهو حالة الذهول والمفارقة المتناقضة على ما هو جديد وغير مألوف أمامنا، فنحن نضحك على "مواقف، كلام، أحداث" تُدهشنا، مُولّدةً بداخلنا مرحًا طفوليًّا عفْويا يُترجَم عبر سلوك الضحك.
ولتوضيح الأمر أكثر، لن تجد ما يثير الضحك عند استيقاظك في الصباح أو خلال أدائك لمهامك الروتينية كل يوم، لكن عندما يطرأ أمر يخالف المنطق العقلي في الواقع ستضحك.
مثال، عند مشاهدتك "مديرك يسقط من على الكرسي خلال اجتماع عمل مهم مع موظفيه"، حينها ستنفجر ضاحكًا.
تطوَّر الاهتمام بالضحك وآثاره الإيجابية حتى دخل إلى أروقة العيادات النفسية، فتحوَّل إلى "مدرسة تشافٍ" لها منتسبون، وأُعلن عن إطلاق أول مؤتمر عالمي حول "الفكاهة والعلاج النفسي" في سويسرا عام 1997 لحشد جهود الخبراء في هذا المجال، كما استخدمت كبرى شركات الطيران المُهرّجين للتخفيف من حدة الخوف الذي يصاحب ركاب الطائرات.
بذلك تصدَّى الضحك بفاعلية لعلاج حالات القلق والتوتر والضغط النفسي، مُفرغًا المُمارس من الحمولات النفسية والفكرية المثقلة، فيركز على اللحظة الآنية عبر ممارسة تمارين التنفس والدعابة، وهو ما يُعرف بـ"يوجا الضحك".
لذلك يعتقد المعالجون عبر "الضحك" أن الساخرين، ولا سيما المبدعين منهم، يعيشون في مستوى عميق من الإدراك للصورة الكلية للحياة، نظرا لتبنّيهم زاوية رؤية مغايرة للمشكلات والمواقف مقارنة بالآخرين.
والشاهد على ذلك قصة "الفيلسوف الضاحك" ديموقريطوس، الذي أُطلق عليه هذا اللقب لأنه كان يضحك على كل شيء، ما دفع الناس للاستعانة بالطبيب "أبوقراط" حتى يعالجه، واستنتج الطبيب بعد عدة جلسات أجراها له أنه أكثر الناس حكمة وجدية، فقد كان يضحك على حماقات الجنس البشري وطريقة تفكيرهم واستنتاجاتهم للأمور التي بدت له بدائية وساذَجة، فاستخدم الضحك كوسيلة للتحمل والتحرر من شعور السخط على الآخرين، فالحياة كوميديا لمن يفكر، وتراجيديا لمن يشعر، كما يقول الكاتب الفرنسي موليير.
ويستخدم البعض جملة "مات من الضحك" بشكل عابر، لكن هذه العبارة تحوّلت إلى حقيقة مُرّة في غينيا عندما اكتشف الطبيب كارلتون غايدوسك مرض "الضحك المميت" -كورو- وهو فيروس يصيب الجهاز العصبي المركزي يتسبب في دخول المريض في نوبة مفاجئة من الضحك الهستيري.
وعزا "غايدوسك" مرض "الضحك المميت" لطقس ديني غريب كان يمارَس بين القبائل الأفريقية، وهو أكل جُثث الموتى، وبناءً على الإحصائيات الصحية أكدت الحكومة الغينية تخلُّصها من "كورو" وتلاشيه نهائيًّا في 2018 بعد حملات طبية أُطلقت لتطويق انتشاره.
وبالطبع لا يمكن استحضار روح الدُّعابة دون الإشارة إلى "أبطال الضحك في العالم" من الشعوب، وهم المصريون الذين اشتُهروا بروح "النكتة والفرفشة"، وما يعلل ذلك تجذُّر طبع السخرية لديهم منذ عهد المصريين القدماء، إذ يقال إن أول نص ساخر وُجد في مخطوطات "فرعونية" حينما سخر عبدٌ من سيده.
ففي أحلك الظروف يتغلّب المصريون على مشكلاتهم بالسخرية التي تُعتمد كوسيلة ذكية لتحسين جودة المشاعر، حتى يظن العقل أنه سيطر على الموقف الحزين أو الأزمة، وقادر على تجاوزها، فيقل التوتر ويتم التحرر من ضغط الألم.
وأتذكر قبل سنوات إعلانًا ساخرًا صاغته إحدى شركات التسويق في القاهرة لعصير خالٍ من السكر يقول: "الحياة مُرّة، ولازم تجرب اللي أمرّ منها، عشان تصبر عليها"، في إشارة ذكية من المُعلنين لتحفيز المستهلكين على فعل الشراء.
وتمتد موجة السخرية عند المصريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ففي كل عام يوم الرابع عشر من فبراير ينطلق ماراثون الهاشتاجات عند الاحتفال بعيد الحب "فالنتاين"، ولا سيما من قبل "العُزّاب"، ويُقصد بهم "المُفركشين" باللهجة المصرية، لـ"العكننة" على المُحتفلين بهذا اليوم الرومانسي بطريقة فكاهية.
وقبل عامين تم تفعيل هاشتاج "سنجلز إن بلاك"، وهي دعوة لارتداء الأسود لمواجهة اللون الأحمر، الذي يصبغ طابع هذا اليوم العاطفي.. ليس ذلك فحسب، بل تم الإعلان عن حفل موسيقي مجانًا لـ"المُفركشين من العزّاب".
نستنتج مما سبق أن الضحك لا يرتبط بمدى شعورنا بالسعادة أو السرور والبهجة، بإمكاننا أن نضحك عندما يتملّكنا الشعور بالتعاسة والحزن حتى نتحرر من القوالب النمطية وننسجم أكثر مع أنفسنا، وكما قال مؤسس "يوجا الضحك"، مادان كاتاريا: "عندما تضحك تتغير، وعندما تتغير يتغير العالم كله من حولك.. لذلك اضحك!".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة