بقعة خضراء وسط المخلفات.. تجربة ملهمة لشاب مصري
"الأمر بسيط.. اخرج من باب محطة مترو (كوتسيكا) بالقاهرة، اسأل عن جمعية (عين البيئة)، وستجد العشرات يدلونك".. هكذا عرف أحمد معوض نفسه.
ربما أراد الشاب المصري بهذه العبارة، التي كررها مرتين عندما طلبت منه "العين الإخبارية" عنوانا واضحا لجمعيته، أن يثبت بالتجربة العملية أن جمعيته أصبحت ذائعة الصيت خلال وقت قياسي، بما يؤكد نجاحها في أداء مهمتها.
أثناء توجه "العين الإخبارية" للجمعية عن طريق مترو الأنفاق، كان هناك ترقب للصعوبة التي قد تكون في الطريق، لأن العبارة التي كررها "معوض" مرتين، ربما كانت من قبيل الثقة المفرطة في الذات فقط، وأن أول عقبة هي الوصول للمقر.
لحظات بعد الخروج من محطة المترو، مع النظر في وجوه أصحاب المحال التجارية والجالسين على المقاهي لاختيار الشخص المناسب لسؤاله عن المقر، وتم الاستقرار على شاب يقف في أحد الأكشاك الصغيرة، وقبل انتهاء السؤال أكمل الشاب اسم الجمعية وحده، وقال: " يمين في يسار، سيكون هناك لافتة تشير إلى حيث المقر".
بعد فترة تم الوصول إلى لافتة تحمل سهما يشير إلى المقر، ومع استكمال السير في الاتجاه الذي حدده السهم، انتهى الطريق بمرفئ كبير يضم عددا من السيارات المتهالكة، وورش لإصلاح السيارات، وعدد كبير من إطارات السيارات القديمة.
سؤال أحد المتواجدين في محيط هذا المكان عن اسم الجمعية كان دربا من الجنون. الخطاب يظهر من عنوانه، ورد فعل شخص يعيش في منطقة مليئة بالمخلفات سيكون صعبا عندما يكتشف أن المطلوب عنوان جمعية معنية بالبيئة.
بنبرة خافتة ووجه خجل، قال أحدهم لـ"العين الإخبارية": "في جمعية هنا اسمها (عين البيئة)، وأشار إلى مكان في نهاية المرفأ على بعد دقيقة واحدة، وفجأة انقلب الحال تماما واختفت المخلفات وظهرت بقعة خضراء جمالية، وسط هذا المحيط غير النظيف.
قبل وبعد
موقع هذه الجمعية، كان جزءا من مشهد المخلفات الذي يسيطر على المكان، وفي مدخلها، لافتة كبيرة توضح الفرق بين الحال قبل شهرين وما هو عليه الآن، حيث أصبح مقرها نقطة خضراء، يتمنى القائمون على الجمعية أن تتسع رقعتها لتشمل أحياء مصر جميعها.
فكرة الجمعية كما يقول رئيس مجلس إدارتها أحمد معوض، جاءت من رغبة مشتركة بين أبناء المنطقة، لتقديم شيء مفيد لمجتمعهم المحلي، وكانت مشكلة القمامة، هي أبرز الأزمات، التي تواجه المنطقة، فتم التفكير في حلول تحولها من أزمة إلى مصدر دخل.
قد يبدو الكلام نمطيا ومكررا، فكثيرا ما نسمع مثل هذا الكلام، ولكن لا تزال المشكلة قائمة، وهو ما يرجعه معوض، إلى أن "كثير من الجهود التي سعت لاحتواء تلك المشكلة، لم تخاطب الناس بشكل يحترم عقولهم، وهذا ما تسعى الجمعية لعلاجه".
وقبل أن أساله: كيف؟.. أشار معوض إلى ماكينات لفرز القمامة وكبسها، وتصنيع أخشاب من المخلفات الزراعية، وتجربة عملية لزراعة الخضروات وتربية الأسماك فوق أسطح المنازل، ووحدات لتوليد الطاقة من الشمس، ووحدات أخرى لإنتاج غاز البيوجاز من المخلفات العضوية.
وقال بابتسامة واثقة: "في جمعيتنا لا نقول للناس كلاما نظريا، لكننا نقول لهم كلاما عمليا، حتى يدخل إلى عقولهم ".
مقر الجمعية عبارة عن مساحة تقدر بـ600 متر تقريبا، تتوسطها مساحة خضراء، تحيط بها مشروعات تنفذها الجمعية، ففي الشمال نموذج لبيت مصغر يستخدم ألواح الطاقة الشمسية بالإنارة، وبالجنوب مشروعات زراعة خضروات واستزراع أسماك فوق الأسطح، وفي الشرق توجد مشروعات تدوير المخلفات الصلبة والبواقي الزراعية، وفي الغرب مشروعات توليد الطاقة من البيوجاز وأعمدة الإنارة بالطاقة الشمسية.
التخصص
ويقوم بكل نشاط شخص متخصص في هذا المجال، حتى يستطيع توصيل المعلومة بشكل دقيق إلى المجتمع المحلي، والراغبين في تنفيذ تلك المشروعات.
ويستطيع معوض تقديم فكرة عامة عن كل نشاط، لكنه آثر على ترك "العيش لخبازه"، كما يقول المثل الشعبي المصري، فاصطحبنا المهندس سامي برسوم، بين مجموعة المشروعات التي تنفذها الجمعية.
برسوم، مهندس متخصص في مشروعات استغلال المخلفات الصلبة والبواقي الزراعية، وصمم ماكينات تقوم بهذا الدور.
أحد هذه الماكينات، هي فرز وكبس المخلفات الصلبة، ويقوم نشاطها على استقبال المخلفات بأشكالها المختلفة، لتمر على سير " الفرز" الذي يقف عليه شخص، يقوم بتصنيفها بين مخلفات ورقية وأكياس بلاستيك وزجاجات فارغة، ليتم توجيه كل الزجاجات الفارغة إلى ماكينة الكبس.
وماكينة الكبس، كما يوضح برسوم، وظيفتها كبس الزجاجات مع بعضها على شكل " بالة" يسهل حملها ونقلها إلى متعهدي شراء تلك الزجاجات التي يتم تصديرها للصين، حيث تستخرج منها خيوط تدخل في كثير من الصناعات.
ومن كبس المخلفات، يأخذنا برسوم إلى ماكينة أخرى، صممها لصناعة الخشب من بواقي القطن، والمعروفة بـ "حطب القطن"، وتدهش من نجاح المهندس في الوصول إلى قطعة من الخشب باستخدام هذه البواقي خلال وقت قياس جدا، وليس ذلك فحسب، بل أنه جمع كمية من القشرة التي تغلف حطب القطن التي دخل في تصنيع الخشب، وقال: "هذه القشرة غذاء جيد جدا للمواشي".
وعلى الجانب الآخر، تجول برسوم بين مع مشروعات الطاقة الشمسية، والتي من بينها شجرة شمسية لشحن الهواتف المحمولة يمكن وضعها في الميادين العامة، وتم تصنيعها باستخدام خلايا شمسية، وخزان شمسي لتخزين الطاقة الشمسية، عمود إنارة يعمل بهذه الطاقة، ونموذج مصغر لمنزل يضاء بنفس الطريقة.
وفي موقع آخر داخل الجمعية، يأخذنا إلى مشروعات زراعة الخضروات والفواكه والاستزراع السمكي فوق الأسطح، والتي تعرف علميا باسم الزراعة بنظام "أكوا بونيك".
ويوجد عده أشكال لهذه الأنظمة من الزراعة، لكن جميعا يشترك في عدم استخدام التربة، واستبدالها ببيئات زراعية بديلة كبيئة "البيتموس" وهو نوع من الطحالب ينمو في الدول الباردة، ويستخدمه منتجو نباتات الزينة، أو "البرليت" وهي صخور ناتجة عن انفجارات بركانية يتم وضعها في فرن درجة حرارته ألف درجة مئوية تتحول بعدها إلى حبيبات صغيرة تصلح للزراعة.
مرحلة التوعية
كان برسوم شديد الحماس هو يتحدث عن كل مشروع، فيما قال معوض: "هذا الحماس سر نجاحنا".
وأضاف: "العمر الزمني لهذا المقر الجديد للجمعية عام واحد، لكننا استطعنا من خلاله تحقيق نجاح ذاع صيته على الفيس بوك، بعد أن أصبح أشبه بورشة عمل تدريبية لأهالي المنطقة وطلاب المدارس والجامعات، وكل من يرغب في الارتقاء بمحيطه المحلي".
فجأة دخل شاب من حلوان، يطلب مشاهدة الأفكار التي تقدمها الجمعية، لرغبته في تنفيذ الفكرة نفسها في محيطة المحلي.
السعادة بقدوم هذا الشاب بدت واضحة على وجه معوض، وكأنها دليل آخر على النجاح الذي حققته الجمعية، وقال بعد أن فرغ من استقباله: "من الأشياء التي تحفزك على العمل، عندما يصل صداه إلى أبعد من محيطك المحلي".
وتشير الصور المعلقة على حوائط الجمعية إلى زيارات قام بها طلاب من الجامعات، لا سيما كليات الهندسة، لمشاهدة ماكينات تدوير المخلفات، كما كان هناك مجموعة من أطفال المنطقة، خلال زيارتنا للجمعية، يشاهدون شرحا للأفكار التي تقدمها.
وأضاف معوض: "لا زلنا رغم هذا النجاح في مرحلة التوعية، فمن خلال هذه الزيارات سننشر الفكرة، لننتقل لاحقا إلى تحويلها لمشروع ربحي".
طره الخضراء
ويعود معوض لتقديم أحد زملائه في الجمعية، وهو المهندس محمد عبدالتواب، لتقديم فكرة عن هذا المشروع، والتي سيتم تنفيذه تحت عنوان "طره الخضراء".
ويقول عبد التواب: "بعد نشر الوعي بالفكرة، سنتعاون مع عدة جمعيات أهلية أخرى في مشروع الفصل من المنبع، لتوعية الأهالي بتصنيف المخلفات التي تخرج عن منازلهم إلى بلاستيك وورق وبقايا زيوت طعام، ليتم تجميع هذه المخلفات وادخالها إلى الماكينات الموجودة في مقر الجمعية، لاستغلالها في تصنيع منتجات يتم تسويقها وبيعها".
ولإنجاح هذه الفكرة، يضيف: "كما سنحقق دخلا من بيع هذه المنتجات، فإننا سنعطي الأهالي مقابل للمخلفات، حتى تتحول من عبء إلى مصدر دخل".
وبنفس المنطق، ستتعامل الجمعية مع مشروعات زراعة الأسطح، ويقول عبدالتواب: " سندعمهم بالتدريب والمتابعة ونساعدهم في تسويق المنتج، في مقابل الحصول على نصف الإنتاج".
أسئلة تحتاج لإجابات
هذا النجاح الذي حققته الجمعية يثير تساؤلات حول المدى الزمني لتحقيقه، والإمكانيات المادية المطلوبة للتنفيذ.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه أحمد معوض الحاصل على بكالوريوس التجارة، أعقبها بقوله: "سأقول لك كلاما، قد تعتبره نمطيا، لكنه الحقيقة".
وأضاف، وقد بدت الحماسة في نبره صوته: "قبل ست سنوات من الآن، وتحديدا قبل أحداث يناير/كانون الثاني 2011، لم يكن لدي أدنى فكرة عما تشاهده الآن في الجمعية من مشروعات، ولكن الحالة التي خلقتها تلك الأحداث في المصريين، دفعتني للتعلم".
ويستحضر معوض الروح التي تحلى بها المصريون في تلك الفترة، لتظهر واضحة على نبرة صوته، التي ازدادت حماسة، وهو يقول: "التحدي وحب الوطن دفعني إلى التفكير في المجال الذي يمكن أن أخدم فيه الوطن، وبحكم انتمائي لمنطقة (كوتسيكا) لاحظت أن المشكلة الأكبر هي القمامة، ففكرت في هذا الاتجاه".
ومنذ عام 2011 حتى 2012، أخذ معوض يتعلم الجديد في مجال تدوير القمامة، ويعود ليتذكر تلك الفترة قائلا: "لم أترك مكانا توجد فيه تجربة لتدوير القمامة إلا وزرته، فوقتي كله كان في الشارع، وخلال تلك الفترة تعرفت على الخبراء المتخصصين هذا المجال، الذين لمسوا حماسي للفكرة، فكانوا النواة التي تشكلت بها الجمعية التي تأسست عام 2012، ثم انتقلت إلى المقر الذي يوجد في كوتسيكا أواخر عام 2015 ".
والأرض الموجود بها المقر الجديد، تم تخصيصه لكي يقدم شرحا عمليا لتجارب تدوير القمامة، مؤجره من الحي لأحد الأشخاص، وتم الاتفاق مع هذا الشخص على تأجير الجزء الذي يوجد به المقر للجمعية.
ولا يجد معوض صعوبة في توفير قيمة الإيجار، كما لا يجد صعوبة في توفير قيمة النماذج العملية التي توجد في المقر.
وقال: "سأعود بحديثي إلى بدايات عام 2012، فتأسيس الجمعية جاء من خلال التفاف مجموعة من الخبراء حول الفكرة، بعد أن لمسوا حماسي لها، وهؤلاء الخبراء هم رأس مال الجمعية، فالجميع يتطوع بما يستطيع حتى تنجح الفكرة".
aXA6IDMuMTYuNzAuOTkg جزيرة ام اند امز