خطر ينابيع المياه الجوفية.. انبعاثات الميثان الخفية

توصلت دراسة جديدة إلى أن ذوبان الأنهار الجليدية بسبب ارتفاع درجة حرارة القطب الشمالي يكشف عن ينابيع مياه جوفية تصدر غاز الميثان الذي يعد أحد غازات الاحتباس الحراري القوية للغلاف الجوي.

وتمكنت الدراسة، التي قادها باحثون من جامعة كامبريدج والمركز الجامعي في سفالبارد بالنرويج، من تحديد مخزونات كبيرة من غاز الميثان التي تسربت بالفعل من ينابيع المياه الجوفية التي كشف عنها ذوبان الأنهار الجليدية في أرخبيل سفالبارد النرويجي بالقطب الشمالي.

تشير الدراسة، المنشورة في مجلة Nature Geoscience، إلى أن انبعاثات الميثان تلك من المرجح أن تزداد مع تراجع الأنهار الجليدية في القطب الشمالي وانكشاف المزيد من ينابيع المياه.

يُعد غاز الميثان (CH4) صاحب التأثير الأكبر على المناخ بعد ثاني أكسيد الكربون، ويُصنَّف من غازات الدفيئة القوية، ورغم قصر عمره وسرعة تبدُّده من الغلاف الجوي مقارنة بثاني أكسيد الكربون، إلا أن درجة تأثيره المحتمل في الاحتباس الحراري أعلى بمعدل 84 مرة من الكربون.

وفق تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، يُسهم الميثان بنسبة 30% في ظاهرة الاحتباس الحراري، وينتج عن تحلل المواد العضوية في البيئات الخالية من الأكسجين، ويتكون بنسبة 40% تقريبًا عن طريق العمليات الطبيعية، و60% عن طريق النشاط البشري مثل الأنشطة الزراعية، خاصة تربية الماشية، ومعالجة النفايات وصناعة الفحم والنفط.

مصدر لم يكن في الحسبان

أهم ما تكشفه الدراسة الجديدة، هو ظهور مصدر إضافي لانبعاثات الميثان يأتي من ينابيع المياه الجوفية التي كشف عنها ذوبان الجليد بالقطب الشمالي، ما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري.

وفق غابرييل كليبر، المؤلفة الرئيسية للدراسة والباحثة في قسم علوم الأرض في كامبريدج، لم تكشف أي دراسة سابقة عن هذه الينابيع كمصدر محتمل لانبعاثات الميثان، وقالت: "هذه الينابيع هي مصدر كبير، وربما متزايد، لانبعاثات الميثان، ولم تكن أبدًا في حسبان العلماء، ولم تضعه الأبحاث حتى الآن ضمن تقديراتنا لميزانية الميثان العالمية".

يشعر الباحثون بالقلق من أن ذوبان الجليد في القطب الشمالي يمكن أن يزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري التي يسببها الإنسان بطريقتين، الأولى عن طريق الذوبان نفسه، والثانية من خلال هذه الينابيع التي تناولتها الدراسة.

يعد ذوبان الجليد بالقطب الشمالي، في حد ذاته، أحد المصادر المهمة لانبعاثات الميثان، حيث حدد العلماء آلاف المواقع في منطقة القطب الشمالي التي اختزنت غاز الميثان لآلاف السنين قبل أن ينبعث منها مع ذوبان الثلوج بفعل تغير المناخ.

أمضى الفريق البحثي بقيادة كليبر ما يقرب من ثلاث سنوات في مراقبة كيمياء المياه لأكثر من 100 ينبوع عبر جزر سفالبارد، وهي أرخبيل نرويجي في القطب الشمالي، حيث ترتفع درجات حرارة الهواء هناك مرتين أسرع من المتوسط في القطب الشمالي.

أضافت كليبر: "أرخبيل سفالبارد يسخن بشكل أسرع من بقية القطب الشمالي، مكننا ذلك من معاينة دقيقة لإطلاق غاز الميثان المحتمل الذي يمكن أن يحدث على نطاق أوسع في جميع أنحاء هذه المنطقة.".

قال البروفيسور أندرو هودسون، المؤلف المشارك في الدراسة من المركز الجامعي في سفالبارد: "سفالبارد على الخط الأمامي لآثار تغير المناخ في القطب الشمالي، والعيش بها يجعلك في مواجهة مباشرة مع تلك الآثار".

وأضاف: "مشهد غاز الميثان وهو ينبعث في المقدمة مباشرة من نهر جليدي تراجع بفعل الذوبان، لا يفارق مخيلتي أبدًا منذ أن رأيته، الأمر جد خطير".

قالت ألكسندرا تورشين المؤلف المشارك في الدراسة، والبروفيسور من قسم علوم الأرض في كامبريدج: "في حين أن الأبحاث في السابق ركزت على أن إطلاق الميثان غالبا ما يكون من ذوبان التربة الصقيعية (الأرض المتجمدة)، فإن هذا الاكتشاف الجديد يخبرنا أن هناك مسارات أخرى لانبعاثات الميثان التي يمكن أن تكون أكثر أهمية في ميزانية الميثان العالمية".

يمكن تعريف ميزانية الميثان العالمية بأنها مشروع عالمي تتولاه المنظمات والمؤسسات المتخصصة، بهدف تحديد كمية انبعاثات الميثان العالمية وأسبابها.

قال هودسون: "حتى انتهينا من أبحاثنا، لم نكن نفهم مصدر ومسارات هذا الغاز، لأننا كنا نقرأ عن دراسات من أجزاء مختلفة تماما من القطب الشمالي حيث تغيب الأنهار الجليدية".

كيف يحدث ذلك؟

تتغذى تلك الينابيع بالمياه من احتياطيات المياه الجوفية الكبيرة داخل الرواسب الأساسية والصخور الأساسية المخبأة تحت معظم الأنهار الجليدية، وذلك عن طريق أنابيب أو قنوات طبيعية تكونت بفعل الكسور في هذه الصخور.

بمجرد ذوبان الأنهار الجليدية وتراجعها، تتسرب المياه الجوفية تحت الأرض إلى أعلى، وتشكل الينابيع، لتنتقل شبكة المياه الجوفية بما تحمله من غاز الميثان إلى السطح.

درس الباحثون 78 نهرًا جليديًا يتعرض للذوبان في سفالبارد بسبب تغير المناخ، وكشفوا جميعًا عن 123 ينبوعا من المياه الجوفية.

ووجد أنه في 122 من أصل 123 ينبوعا تمتلئ المياه بغاز الميثان القديم بتركيزات عالية جدًا تتدفق إلى الأعلى تحت الضغط.

وتوصلوا إلى أن كمية الانبعاثات التي تنبعث من هذه الينابيع يمكن أن تتجاوز 2000 طن على مدار عام، وهو ما يعادل حوالي 10% من انبعاثات الميثان الناتجة عن قطاع الطاقة والنفط والغاز سنويًا في النرويج.

قالت كليبر إنه من المرجح أن يصبح مصدر الميثان هذا أكثر أهمية مع انكشاف المزيد من الينابيع بفعل ارتفاع درجات الحرارة.

وأضافت: "إذا استمر الاحترار العالمي دون رادع، فمن المحتمل أن يصبح إطلاق الميثان من ينابيع المياه الجوفية الجليدية أكثر انتشارًا".

في العادة، ليس من السهل التعرف على ينابيع المياه الجوفية الجليدية، لذلك دربت كليبر عينها على التقاطها وتحديدها من صور الأقمار الصناعية.

بعد تكبير صور الأقمار الصناعية لمناطق الأرض المكشوفة بسبب تراجع أنهار سفالبارد الجليدية الـ78، بحثت كليبر عن علامة كاشفة تحدد أماكن الينابيع، وتتمثل في قطرات زرقاء من الجليد، حيث تسربت المياه الجوفية إلى السطح وتجمدت.

سافرت كليبر وفريقها بعد ذلك، بواسطة عربة ثلجية، إلى كل من هذه المواقع التي وجدت فيها تلك العلامة، وأخذت عينات من المياه الجوفية في المواقع التي تقرح فيها الجليد بسبب تراكم المياه والغاز المضغوط.

فيما بعد، فحص الفريق البحثي كيمياء المياه التي تغذي هذه الينابيع، ووجدوا أن جميع المواقع التي خضعت للدراسة كانت مليئة بكميات كبيرة من الميثان المذاب، ما يعني أنه بمجرد وصول مياه الينابيع إلى السطح، فإن الكثير من الميثان الزائد يمكن أن يتسلل إلى الغلاف الجوي.

صخور من ملايين السنين

تمكن الباحثون من تحديد النقاط الساخنة لانبعاثات الميثان في سفالبارد، والتي كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بنوع الصخور التي تخرج منها المياه الجوفية.

تحتوي بعض الصخور، مثل الصخر الزيتي، على غازات طبيعية، بما في ذلك الميثان، والناتجة عن انهيار المواد العضوية وقتما تشكلت الصخور.

قالت كليبر: “إنه ليس غاز الميثان الذي تنتجه الميكروبات حديثًا، إنه الميثان الذي تم تكوينه عندما تشكلت الصخور منذ ملايين السنين”.

يثير العمر القديم للميثان قلق الباحثين، لأنه يشير إلى أنه يأتي من خزانات غازية ضخمة تحت الأرض، ما يعني إمكانية إطلاق الكثير من الميثان وتحركه لأعلى من خلال الكسور في الصخور أو عبر المياه الجوفية.

كما وجد الباحثون أن أكثر تدفقات الغاز كثافة حدثت في مناطق بها طبقات صخرية تحت الأرض عمرها ملايين السنين.

قالت كليبر: "في سفالبارد، بدأنا نفهم ردود الفعل المعقدة والمتتالية الناجمة عن ذوبان الأنهار الجليدية، ويبدو من المحتمل أن هناك المزيد من النتائج مثل هذه لكننا لم نكتشفها بعد".

قال الباحثون إن ما يحدث في سفالبارد يمكن أن يحدث بالتأكيد في أماكن كثيرة أخرى، مما قد يضيف سببًا جديدًا لتفاقم الاحترار في القطب الشمالي.

كما قال هودسون: “الصخر الزيتي هو أكثر صخور الأرض وفرة، وهناك الكثير منه في القطب الشمالي (وهناك أيضا صخور مثله)”.

ختمت الدراسة نتائجها بعبارات تشير إلى أن الخوف الحقيقي ليس ما يحدث في سفالبارد، بل ما يعنيه ذلك في حال انتشرت هذه الظاهرة، أو تفاقمت بسبب المزيد من التراجع الجليدي.