مرة أخرى يخطئ بعض المحللين في قراءة التوتر الحالي في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية،
استهلك الباحثون والمتخصصون في الشأن الإيراني سنوات بل عقودا منذ ثورة الخميني عام 1979 في جدل غرائبي حول تقسيم النظام الإيراني إلى إصلاحيين ومحافظين، وعقدت مئات الندوات ومثلها وأكثر من المحاضرات حول سمات هذا التيار وذاك الجناح في هذا النظام الفاشي!
لم أقتنع يوما ما بأن هناك إصلاحيين داخل نظام يتمتع بهذا القدر من العدائية والاستعلاء القومي العنصري حيال جيرانه والعالم أجمع، ولم أقتنع بأن روحاني أو ظريف أو حتى خاتمي من قبلهما شخصيات إصلاحية تؤمن بالحوار واحترام الآخر، ومن لا يصدق ذلك عليه أن يتمعن في تصريحات من يصفهم البعض بالإصلاحيين سواء في مناسبات وفترات زمنية مختلفة، أو في وسائل الإعلام سواء كانت محلية أم دولية أو موالية للنظام الإيراني وتابعة له.
لن يقبل العالم وضع نحو 30% من صادرات النفط العالمية تحت رحمة الهوس الثوري المتفاقم في طهران، ولن تقبل دول المنطقة وحلفاؤها الدوليون كذلك أن يتحول أمن الخليج العربي إلى ورقة ضغط يلهو بها الملالي كما يشاؤون!
أضاع الكثيرون وقتهم وجهودهم إذاً في مناقشة قضية محسومة بالفعل، وأهدروا جهوداً كان يمكن أن تستثمر في توفير فهم أكثر واقعية للنظام الإيراني وأنماط تفكيره الأيديولوجي، ولكن هذا ما حدث وليس علينا سوى التعامل مع الحقيقة التي أطلت على العالم بوجهها السافر من دون تجميل عبر تصريحات الرئيس روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف.
لست أقصد هنا مطلقاً تلك التصريحات التي هدد روحاني فيها الولايات المتحدة بـ "أم الحروب" وحذرها من العبث بـ "ذيل الأسد"، فهذه عبارات عنترية جوفاء سمعناها من قبل في أدبيات النظام العراقي البائد على لسان زعيمه صدام حسين، كما أنها تتعلق بتراشق كلامي متبادل بين طهران وواشنطن، ولست أقصد أيضاً استخفاف ظريف بتحذيرات الرئيس ترامب للرئيس الإيراني، ولكني أقصد هنا تحديداً قول الرئيس روحاني : "نحن أهل شرف وحفظنا أمن ممر الملاحة البحرية في المنطقة طوال التاريخ"، ما يدفعني للتساؤل عما إذا كان من "الشرف" والشهامة الاستيلاء على أربعة عواصم عربية والتباهي بذلك علناً؟ وعما إذا كان من شيم الشرفاء نشر الفوضى والاضطرابات والاستيلاء على مقدرات وثروات الشعوب والدول المجاورة؟.
ثم منذ متى حافظت إيران على أمن ممر الملاحة البحرية، وهي التي يصعب إجراء حصر دقيق لعدد مرات التهديد بإغلاق هذا المضيق في كل مرة يلوح فيها توتر في العلاقات مع الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية؛ حتى جعلته من أكثر الممرات المائية قابلية للتهديد بالإغلاق من طرف دولة مشاطئة يفترض أنها تعرف جيداً أحكام القانون الدولي بشأن أمن الممرات البحرية وحرية المرور فيها؟!.
هل من الحفاظ على أمن الممرات البحرية الدولية باعتباره مسؤولية من مسؤوليات الدول المشاطئة، اعتبار هذا المضيق ملكية خاصة يمكن التحكم فيها وإغلاقها بغض النظر عن الإضرار بالآخرين سواء كانوا دولا مجاورة مصدرة للنفط، أم أخرى مستهلكة لهذه السلعة الاستراتيجية؟!
مرة أخرى يخطئ بعض المحللين في قراءة التوتر الحالي في العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية، ويتخذون مما حدث في الحالة الكورية الشمالية نموذجاً لما سيؤول إليه هذا التوتر، ويستعيدون مفردات الرئيس ترامب وتهديداته في تغريداته الشهيرة التي وجهها إلى الزعيم الكوري الشمالي قبل أشهر، إذ نعته آنذاك بأنه "رجل مجنون"، وسخريته من "الزر" النووي الكوري الشمالي وغير ذلك من تراشق كلامي متبادل انتهى بمديح وإشادة بعد جلوس على طاولة التفاوض!
ربما تندرج تصريحات الرئيس ترامب حيال إيران ضمن استراتيجية متكاملة تتخذ من سياسة "حافة الهاوية" نهجاً لها، ولكن لا يجب أن ننسى أن الحالتين، الإيرانية والكورية الشمالية، مختلفتان تماماً، سواء من حيث قدرات الردع العسكرية، أو من حيث البيئة الإقليمية والأطراف الدولية المؤثرة القادرة على ضبط إيقاع الصراع وضمان عدم انزلاقه إلى مواجهة عسكرية شاملة.
في الحالة الإيرانية، تسرعت إيران في الانزلاق إلى نقل التهديد بإغلاق مضيق هرمز من مربع القيادة الوسطى والصغيرة في الحرس الثوري إلى قمة هرم السلطة، حين قام المرشد الأعلى خامنئي بمنح ضوء أخضر لاستخدام هذا الخيار الانتحاري في اجتماع له مع الدبلوماسيين الإيرانيين.
كانت تصريحات خامنئي في هذا الشأن بمنزلة "مباركة" لتصريحات الرئيس روحاني، التي حظيت بإشادة الحرس الثوري، ولكن توقيت "المباركة" جاء مبكراً جداً في الحرب النفسية الدائرة مع الإدارة الأمريكية، وأحرق أوراق النظام الإيراني بأكملها، ولم يبق له ما يمكن التلويح به، بل إنه قد وضع نفسه في موقف حرج للغاية بهذا التصريح، الذي يبدو أنه جاء انعكاساً لحالة تشنج سياسي مع تأزم الوضع الداخلي وانحسار تام في البدائل الاستراتيجية المتاحة في التعامل مع الضغوط الأمريكية.
ما يثير عصبية النظام الإيراني أن الإدارة الأمريكية الحالية، أو على الأقل فريق كبير منها على رأسه وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار البيت الأبيض للأمن القومي جون بولتون، لا تستهدف الضغط على هذا النظام لتليين موقفه والقبول بعقد صفقة نووية تلبي شروط الرئيس ترامب، بل إطاحة هذا النظام تماماً، وكانت أوضح إشارة لذلك في تصريحات بومبيو التي قال فيها إن "النظام الإيراني إنما هو مافيا أكثر من كونه حكومة."
القاعدة التي وضعها النظام الإيراني القائلة بأنه "إما أن يتمكن الجميع من استخدام مضيق هرمز أو لن يستخدمه أحد"، هي قاعدة انتحارية بامتياز وستكون السبب في نهاية هذا النظام الذي لم يقرأ جيداً مايدور حوله، فلن يقبل العالم وضع نحو 30% من صادرات النفط العالمية تحت رحمة الهوس الثوري المتفاقم في طهران، ولن تقبل دول المنطقة وحلفاؤها الدوليون كذلك أن يتحول أمن الخليج العربي إلى ورقة ضغط يلهو بها الملالي كما يشاؤون!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة