أستحضر في هذا اليوم أحداث عامي 1970 و1971، في الخليج والجزيرة العربية، وأستطيع أن أقول إن هذين العامين هما أطول عامين في تاريخ المنطقة
أستحضر في هذا اليوم، من دفتر الذكريات وملفات الوثائق أحداث عامي 1970 و1971، في إقليم الخليج والجزيرة العربية وأستطيع بقدر من الثقة، أن أقول إن هذين العامين هما أطول عامين في تاريخ المنطقة؛ لأنه فيهما تقررت مسارات كيانات تسعة في حوض الخليج بعد الانسحاب البريطاني، إضافة إلى كيان آخر هو سلطنة عمان، التي خرجت في يوليو 1970 من عهود قاسية من العزلة والتخلف والانغلاق، وبدأت تاريخاً جديداً مع عودة عشرات الآلاف من أبناء السلطنة إلى بلدهم، بعد سنين طويلة في مناطق الاغتراب والهجرة والمنافي الاختيارية أو القسرية.
لكن الإرادة الممتزجة بالحكمة، والرؤية الصائبة، ووعي زايد وراشد، والرعيل الأول من جيل شاب وحدوي وعروبي من طراز فريد وتوق شعبي عارم للاتحاد والنهوض، فتح طريقاً سالكاً للأمل والمستقبل، وكانت هي لحظة الاستجابة والمسؤولية التاريخية
شهد عام 1969، وما قبله من شهور، زخماً كبيراً في عدد الاجتماعات واللجان، الممثلة للإمارات التسع، والتي استجابت لنداء المغفور لهما زايد وراشد، لتشكيل اتحاد يجمع هذه الإمارات إثر قرار بريطاني بالانسحاب من شرقي السويس، بما فيه منطقة الخليج العربي.
استقطبت هذه الاجتماعات، وما فيها من نوايا اتحادية، اهتماماً عربياً واسعاً، فضلاً عن الاهتمام والمراقبة من قبل إيران الشاه والحكومة البريطانية.. وقد لعبت الكويت ممثلة بوزير خارجيتها في ذلك الوقت الشيخ صباح الأحمد الجابر، دوراً مهماً في تقريب وجهات النظر بين حكام وشيوخ الإمارات التسع، وكذلك فعلت المملكة السعودية.
ورغم ضغوط الزمن، وحالة الوهن والنزاعات التي تركها البريطانيون تتفاقم في المنطقة طوال قرن ونصف القرن فإن أصحاب النوايا الاتحادية حققوا خطوات متقدمة في تشكيل مجلس اتحادي تساعي مؤقت، لكن مشكلات عدة كانت تقف أمام تطوير ممكن للمكنات المتاحة، من أمثلة الدستور أو الميثاق الدائم والتمثيل والدفاع والعلم والموازنة وسلطات الاتحاد ومجالس الشورى أو مجلس استشاري والعاصمة وغير ذلك من العقبات الظاهر منها أو الكامن.
كان الزمان يتحرك في كل مكان، لكن يبدو أن عاماً آخر كاملاً مر بدون التوصل إلى اتفاق حول مختلف النقاط موضوع النزاع والاختلاف، وجاء شهر أكتوبر من عام 1970 ليشهد نهاية الاتحاد التساعي. مات الاتحاد-الحلم، وعاش الاستقلال.
المسرح كان مهيأ لعقد اجتماع لنواب الحكام في أبوظبي، يوم السبت الموافق 24 من أكتوبر 1970، لمناقشة تقارير اللجان كافة والتحضير لاجتماع المجلس الأعلى للاتحاد لتوقيع الدستور المؤقت، وإعلان مولد الدولة الاتحادية.
في تلك الليلة انتقلت إلى رحمة الله المغفور لها الشيخة سلامة والدة الشيخ زايد بن سلطان، فألغي الاجتماع وذهبت الوفود معزية إلى مدينة العين، ونكست الأعلام، ثم عادت الوفود للاجتماعات ليوم واحد، وكانت هذه هي آخر الاجتماعات الاتحادية لتجري بعدها في الشهور التالية الأحداث إلى منعطفات جديدة وحاسمة، وفي هذا العام (1970) جرت أحداث مفصلية، من بينها: سقوط المطالبة الإيرانية بالبحرين، واعتراف الأمم المتحدة رسمياً بعروبة البحرين، ورغبة شعبها في الاستقلال، وفوز حزب المحافظين البريطاني في الانتخابات، وتعيين سير وليام لوس ممثلاً شخصياً لوزير الخارجية البريطانية دوجلاس هيوم في منطقة الخليج، وإعلان قطر عن نظام أساسي للحكم فيها وتشكيل أول وزارة فيها وتزايد إغراءات الاستقلال ومظاهره في كل من قطر والبحرين، وتصاعد وتيرة الخلافات الحدودية، وعودة العراق إلى التركيز على منطقة الخليج وافتتاح مراكز تجارية عراقية، ووفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر المفاجئة، وحدوث تغيير في الحكم في سلطنة عمان، وإعلان إيران الشاه رفضها بقاء بريطانيا في الخليج، باعتبار أن إيران هي المؤهلة لوراثة بريطانيا في المنطقة، والقادرة على ملء الفراغ الذي سيتركه انسحاب القوات البريطانية، وسعيها المعلن لاحتلال ثلاث جزر إماراتية مقابل «تنازلها» عن مطالبتها بالبحرين.
أحداث مفصلية متلاحقة في ظل انهيار المحادثات الاتحادية التساعية، ومسارعة الإمارات السبع للملمة الأفكار والبيت، والتداول في بلورة نهائية للدستور المؤقت، ومبادرة الكويت والسعودية إلى إيفاد وفد مشترك في مطلع عام 1971 للمساعدة على تخطي العقبات أمام ولادة الاتحاد.
بعد نحو تسعة وأربعين عاماً نستحضر ذلك العام الأخير من مداولات واجتماعات وتعقيدات استمرت أكثر من ثلاث سنوات، بدءاً من فبراير 1968، ونتأمل المشهد العام لهذه المنطقة في مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والإدارة ونوعية الحياة.. إرث ثقيل من العزلة والتجزئة والشقاء والنزاعات والتحديات في الداخل وفي الخارج.
لكن الإرادة الممتزجة بالحكمة، والرؤية الصائبة، ووعي زايد وراشد، والرعيل الأول من جيل شاب وحدوي وعروبي من طراز فريد وتوق شعبي عارم للاتحاد والنهوض، فتح طريقاً سالكاً للأمل والمستقبل، وكانت هي لحظة الاستجابة والمسؤولية التاريخية.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة