التعاون الإماراتي السعودي لمواجهة جماعات التطرف والإرهاب قديم وثابت ولا يخرج برنامج "الجزيرة" عن محاولة جديدة وركيكة لزرع الفتنة.
عندما تبدأ السفينة بالغرق، لا يوفر القبطان شيئاً من خشب السفينة، فيبدأ باقتلاعه من أجل تحويله إلى طوافات للنجاة. ويبدو أن هذا هو ما يحدث الآن في قطر، مع اشتداد أزمتها، إذ يبدو أن القيادة القطرية قررت أن تضحي بقناة الجزيرة التي عملت على دعمها لعقدين من الزمن، حتى بات البعض يقول إن الجزيرة أهم من قطر عند صانع القرار القطري، فما يطل به تامر المسحال – وهو صحفي مدعوم من حركة حماس في غزة، ومقرب من مجلس إدارة القناة – ضمن سلسلة وثائقيات "ما خفي أعظم" هو دليل واضح على هبوط مستوى المادة الإعلامية التي تقدمها الجزيرة مؤخراً، فالبرنامج تحول إلى منصة لتسويق مشاريع المخابرات القطرية بشكل واضح وإخراج إعلامي ركيك، وهنا أود تناول حلقة "بين تطرفين" التي خرج بها البرنامج مؤخراً من زاوية إعلامية بحتة.
لو أن تامر المسحال شد الرحال إلى إسطنبول لوجد عشرات وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الإخوانية الممولة من قطر والتي تركز سياستها الإعلامية على دعم التطرف والإرهاب في العالم العربي، ومنها موقع هافنغتون بوست العربي، الذي سُحب ترخيصه
فالوثائقي يبدو أقرب إلى فيلم "سمك لبن تمرهندي" لما يحويه من تناقضات وقصص متنافرة يحاول ربطها بالقوة للوصول إلى نتيجة يريدها سلفاً، يستعين بالموسيقى والمؤثرات البصرية والإخراجية من أجل وضع المشاهد تحت تأثير نفسي يساعد معد البرنامج على التغطية على ما فيه من مغالطات وشتات في المعلومات. كما أنه يجتر من جديد الاستراتيجية الإعلامية القطرية القائمة على محاولة ضرب العلاقات السعودية الإماراتية الوثيقة، كسبيل وحيد للرد على قرار المقاطعة الذي فرضته على الدوحة أربع دول عربية، وهو ما يشير إلى بداية الإفلاس السياسي.
البرنامج يعكس – دون أن يقصد – وجهة نظر قطرية قائمة على أن المراجعات الفكرية للتطرف الإسلامي، هي تطرف بحد ذاتها. ويستشهد بشهادات لشخصيات إخوانية، لكي تصف لنا من قاموا بهذه المراجعات وعلى رأسهم – كما ظهر في البرنامج – تركي الدخيل مدير قناة العربية، بأنهم متطرفون، وفي هذا من المغالطات ما يدفع المشاهد للضحك، فعلي سبيل المثال يستشهد الفيلم بشهادة الإخواني الليبي رياض صاكي الذي كان من بين من دعوا لحمل السلاح في ليبيا، وتجنيد الشباب ضمن الجماعة الإسلامية المقاتلة هناك، ليصف الصحفي السعودي منصور النقيدان "بأنه انتقل من التطرف الديني إلى التطرف العلماني"، وهذا انعكاس واضح للرؤية القطرية التي ترى في تنظيم الإخوان الإرهابي ممثلاً للإسلام المعتدل في العالم، ومن هم خارجه متطرفون. فصانع الفيلم لا يجد حرجاً في أن يجري السيد جمال خاشقجي - وهو ضيف في البرنامج – أو سلمان العودة مراجعات فكرية مماثلة، طالما أنهما لا يشنان حملة ضد تنظيم الإخوان. كما يستشهد البرنامج بشهادة من مضاوي الرشيد للقول بأن تركي الدخيل لا يملك "عمقاً فكرياً"، وهو أمر يدعو للسخرية والازدراء، فلاهي في موقع الحكم على الدخيل، الذي لا يحتاج شهادة من أحد، ولا شهادتها كمعارضة للحكم في المملكة مقيمة في لندن يمكن أن تشكل أي إضافة مقبولة.
يتحدث البرنامج عن أن انتقال قناة العربية من لندن إلى دبي وضعها تحت تأثير دولة الامارات العربية المتحدة، وهو أمر مضحك أيضاً إذ يعرف كل من عمل في القناة، أو على علم بشؤونها أنه غير صحيح. كما يستعين البرنامج بوثائق حصل عليها من مصدر مجهول لا يفصح عنه، وعلى الأغلب هو من المخابرات القطرية، ليقول إن هناك دعماً مالياً من الحكومة الإماراتية لعدد من الشخصيات السعودية المؤثرة في الإعلام. وهو لا يقدم أي شيء يثبت صحة هذه الوثائق، وحتى لو صح جزء من هذه الوثائق، وهي قديمة في جلها، فإن حصول مراكز الدراسات على تمويل من الحكومات أمر شائع في العالم العربي، فمراكز الأبحاث في وطننا العربي تحصل على الدعم المالي إما من الحكومات أو من دول غربية، بما فيها تلك التي تعمل في قطر، كما أن دولة الإمارات العربية لا تخفي دعمها لتجارب الإصلاح والمراجعات الفكرية، كأحد الطرق المهمة في مواجهة التطرف والإرهاب، ولو أن تامر المسحال شد الرحال إلى إسطنبول لوجد عشرات وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الإخوانية الممولة من قطر، والتي تركز سياستها الإعلامية على دعم التطرف والإرهاب في العالم العربي، ومنها موقع هافنغتون بوست العربي، الذي سُحب ترخيصه، والأخبار تقول إن السبب كان استخدام التمويل القطري لهذا المنبر من أجل شن حملات لتشويه خصوم قطر والتحريض، ولا ننسى تحريض بعض تلك القنوات صراحة على قتل واستهداف رجال الأمن في مصر، فشتان ما بين من يعمل على الإنفاق من أجل نشر الأفكار التي تدعو للمراجعة الفكرية، ومحاربة التطرف، وبين من ينفق أضعاف ذلك من أجل نشر التطرف.
يحاول البرنامج الترويج لفكرة أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان واقع تحت تأثير مستشاريه الإعلاميين المدعومين من الإمارات، وهي فكرة مكررة قديمة فشلت محاولات تقديمها القطرية سابقاً في إقناع أي طرف بها، وتحاول النيل بشكل غير مباشر من الأمير الشاب الذي يقود عجلة الإصلاح في بلاده حالياً، كما أن ضيف البرنامج جيفري جيمس مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، ينفي هذه الفكرة بشكل قاطع، لكن شهادة الرجل يتم المرور عليها سريعاً دون التوقف عندها رغم أهميتها، وهذا أحد الأمثلة على التناقض في البرنامج.
على أن أكثر ما يثير السخرية في البرنامج، هو شهادة بيتر أوبورن الذي يحاول القول إن هناك تنسيقاً سعودياً إماراتياً إسرائيلياً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط ، فهذا التصريح الذي يفترض أن هذا التنسيق بدأ مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يتجاهل سياسة دولة الإمارات القديمة والمتجذرة في محاربة التطرف والإرهاب منذ زمن طويل، وتجربة المملكة العربية السعودية في المناصحة ومحاربة تنظيم القاعدة وأفكاره منذ عقدين، كما أن هذا الضيف لا يقدم أي دليل على هذا التنسيق المزعوم بين الإمارات والمملكة من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى، بينما ذاكرة المشاهد لم تنسَ بعد التواصل القطري الإسرائيلي المباشر، ودعوة أمير قطر لمسؤولي اللوبي الإسرائيلي في أميركا مؤخراً لزيارة الدوحة، وتقديم الوعود لهم بالتنسيق والتعاون المباشر، وكذلك تصريحات سفير قطر في غزة محمد العمادي الذي أعلن صراحة أن الدعم القطري لغزة – وهو دعم لحماس وليس لغزة – إنما هدفه هو دعم إسرائيل وحمايتها من أي خطر قد تشكله حماس.
على أن أخطر وأهم ما يقدمه هذا البرنامج، هو التوجه القطري لابتزاز الإعلاميين والتجسس عليهم وتهديدهم، وهي رسالة استخباراتية واضحة، تهبط بمستوى الرسالة الإعلامية القطرية لقناة الجزيرة إلى الحضيض، كما أنها محاولة مفضوحة لتشتيت الانتباه عن حقيقة الأزمة القطرية المتمثلة في دعم الدوحة لجماعات التطرف والإرهاب في المنطقة، فالبرنامج يقدم وثائق مشكوكا في صحتها، ويحاول جرّ المستهدف إلى فخ الرد، فبعد أن فشلت الدوحة في خرق المقاطعة المفروضة عليها، وفتح أي قناة للحوار قبل تنفيذها الشروط المطلوبة، تلجأ الآن إلى كيل الاتهامات مستجدية الرد من الطرف الإماراتي أو السعودي.
إن التعاون الإماراتي السعودي لمواجهة جماعات التطرف والإرهاب قديم وثابت، وقد تعزز خلال فترة حكم المغفور له الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا يخرج البرنامج عن محاولة جديدة وبطريقة ركيكة لزرع الفتنة بين قوتين تعملان منذ سنين لمحاربة الأفكار المتطرفة والإرهابية التي حاولت أن تسيطر على المشهد السياسي خلال فترة ما عُرف بالربيع العربي بتمويل ودعم قطري.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة