دروس تاريخية من قرنين.. هكذا يمكن لاتفاق سلام في أوكرانيا أن يدوم

على مدى القرنين الماضيين، شهد العالم العديد من الصراعات الكبرى التي انتهت باتفاقات سلام، بعضها صمد لعقود، فيما انهار البعض الآخر سريعًا، ممهّدًا الطريق لنزاعات جديدة.
فمن مؤتمر فيينا بعد هزيمة نابليون إلى معاهدات ما بعد الحربين العالميتين، شكلت هذه التسويات النظام الدولي وأرست توازنات القوى.
- مفاوضون أمريكيون إلى روسيا.. هدنة أوكرانيا بيد بوتين
- غضب ترامب وضمانات الأمن.. «وقود دفع» أوكراني نحو الهدنة
واليوم، ومع ملامح التوصل لاتفاق سلام في أوكرانيا، يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن التوصل إلى اتفاق سلام مستدام يمنع تجدد النزاع؟..
وهنا يقدم التاريخ دروسًا ثمينة يمكن أن تساعد في صياغة تسوية قادرة على الصمود أمام التحديات السياسية والأمنية، وفق تحليل لـ«فورين أفيرز».
ملامح من اليوم
واليوم، قد لا تؤدي مفاوضات إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية إلى إنشاء كيان أمني عالمي جديد، لكنها قد تشكل مستقبل التعاون الدولي.
فالعالم يعيش حالة من الاضطراب، إذ قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتقويض المؤسسات الدولية التي قادت النظام العالمي لعقود، وتسببت سياساته الجمركية في اضطرابات اقتصادية واسعة.
كما أدى صدامه العلني مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى إضعاف ثقة الحلفاء التقليديين في أمريكا كشريك موثوق.
في الوقت ذاته، تسعى أوروبا إلى تحقيق استقلالية أمنية أكبر، بينما تتجه العديد من الدول نحو نظام عالمي أكثر توازناً، لا تهيمن عليه القوى الغربية.
ووسط هذه التغيرات، يبدو التوصل إلى اتفاق شامل في أوكرانيا مستحيلاً في ظل التباين الحاد بين مواقف كييف وموسكو، والانقسام العميق في المشهد الدولي.
حتى في حال التوصل إلى اتفاق، فإن استدامته تظل موضع شك. فالتاريخ مليء بمحاولات سلام فاشلة، كما حدث في 1938 و1939، عندما لم تمنع التسويات آنذاك اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك، قد تكون هناك إمكانية لاتفاق عملي يضم القوى العظمى والأطراف المعنية مباشرة، مستفيدًا من التجارب التاريخية السابقة.
ما الذي يمكن أن يقدمه التاريخ؟
بعد هزيمة نابليون بونابرت، اجتمع القادة الأوروبيون في مؤتمر فيينا (1814-1815) لإعادة ترتيب الحدود وتحقيق توازن مستقر للقوى في القارة.
وبعد الحرب العالمية الأولى، أسفر مؤتمر باريس للسلام (1919) عن تأسيس عصبة الأمم، التي كُلّفت بالحفاظ على السلام العالمي.
أما في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد اجتمع ممثلو 50 دولة عام 1945 لصياغة ميثاق الأمم المتحدة، المنظمة التي حلت محل عصبة الأمم بعدما أثبتت الأخيرة فشلها في منع اندلاع نزاعات كبرى.
ورغم أن بعض الاتفاقات لم تحقق السلام الدائم، إلا أن هناك أمثلة على حلول جزئية نجحت في وقف القتال لفترات طويلة.
على سبيل المثال، تمكنت اتفاقيات وقف إطلاق النار في كوريا في الخمسينيات من إنهاء الأعمال العدائية رغم غياب اتفاق سلام رسمي.
كما أدى تقسيم قبرص في السبعينيات إلى تجميد الصراع، فيما وفرت تسوية فنلندا مع الاتحاد السوفياتي في الأربعينيات نموذجًا للمحافظة على الاستقلال مقابل تنازلات إقليمية محدودة.
ضمانات النجاح
ولضمان نجاح أي اتفاق في أوكرانيا، لا بد من تحقيق توازن بين ثلاثة عوامل رئيسية:
أولاً، ينبغي تجنب فرض شروط مذلة على أي طرف، كما حدث مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، مما ساهم لاحقًا في نشوب الحرب العالمية الثانية.
ثانيًا، يجب توفير ضمانات أمنية حقيقية لأوكرانيا مدعومة بقوة عسكرية، وليس مجرد وعود فارغة كما حصل مع دول أوروبا الشرقية بين الحربين العالميتين.
وأخيرًا، ينبغي صياغة تسوية جيوسياسية تستطيع الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية، بحيث لا تؤدي إلى جولة جديدة من الصراع.
قد لا يكون أي اتفاق مثاليًا، لكنه قد يحافظ على الاستقرار حتى تصبح الظروف مواتية لحل دائم، كما يمكن أن يكون نموذجًا جديدًا للتعاون الدولي في ظل عالم مضطرب.
لماذا يصعب التوصل لـ«صفقة كبرى»؟
يرى البعض أن إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية يجب أن يكون جزءًا من تسوية أوسع تشمل قضايا دولية أخرى، خاصة مع تداخل النزاع مع أزمات عالمية كبرى.
فإيران وكوريا الشمالية تزودان روسيا بالأسلحة، وفق الاتهامات الغربية، والحرب تؤثر على استقرار أوروبا، والشرق الأوسط، وأفريقيا.
في الماضي، نجحت تسويات شاملة مثل معاهدة فرساي (1919)، التي هدفت إلى كبح النزعة العسكرية الألمانية، والاتفاقات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية (1945)، والتي فرضت استسلامًا غير مشروط على ألمانيا واليابان، في إعادة تشكيل النظام العالمي.
لكن الوضع في أوكرانيا مختلف تمامًا، إذ لا يوجد طرف مهزوم بوضوح يمكن فرض الشروط عليه كما حدث مع ألمانيا واليابان.
فوجهة نظر أوكرانيا حول الحرب واضحة: روسيا ضمت القرم في 2014، ثم دعمت الانفصاليين في دونباس، وأخيرًا شنت غزوًا شاملًا في 2022.
وبالنسبة لكييف، فإن الحل يكمن في تغيير القيادة الروسية، وهو سيناريو غير واقعي.
في المقابل، ترى موسكو أن أوكرانيا «دولة غير شرعية» يديرها «النازيون»، وتزعم أن ضمانات الناتو الأمنية لأوكرانيا كانت السبب الرئيسي للصراع.
وفي ظل هذا التباين في الرؤى، يبدو التوصل إلى تسوية شاملة أمرًا صعبًا للغاية.
ما البديل؟
ووفق «فورين أفيرز»، فإن البدائل تشمل:
تسوية جزئية
إذا كانت التسوية الشاملة غير ممكنة، فقد يكون الحل الجزئي الخيار الأكثر واقعية.
فهناك تجارب تاريخية تدعم هذا النهج، مثل الهدنة الكورية (1953)، التي أوقفت القتال بين الكوريتين رغم عدم توقيع اتفاق سلام رسمي.
كما أن اتفاق القوى الأربع حول برلين (1971) ساعد في تقليل التوترات رغم استمرار الانقسام، بينما أدى تقسيم قبرص عام 1974 إلى استقرار نسبي دون استئناف القتال.
في أوكرانيا، قد يكون الحل العملي هو اتفاق هدنة مشابه لما حدث في كوريا أو برلين، يهدف إلى وقف الحرب دون إعادة رسم النظام العالمي بالكامل.
تنازلات إقليمية
التاريخ يُظهر أن التنازل عن الأراضي كان دائمًا سلاحًا ذا حدين.
ففي اتفاق ميونخ (1938)، تخلت تشيكوسلوفاكيا عن أراضٍ لصالح ألمانيا النازية، مما شجع هتلر على غزوها بالكامل لاحقًا.
بالمقابل، قبلت فنلندا في معاهدة موسكو (1940) بالتنازل عن أراضٍ للاتحاد السوفياتي لكنها حافظت على استقلالها.
الدرس المستفاد هنا هو أن التنازلات يجب أن تكون مدعومة بضمانات أمنية قوية، مع تجنب فرض شروط مهينة على أي طرف، لأنها قد تؤدي إلى تصعيد جديد.
ما هي ضمانات استدامة الاتفاق؟
لضمان استدامة السلام، يجب التركيز على إعادة الإعمار الاقتصادي، كما فعلت خطة مارشال (1947)، التي ساعدت في إنعاش أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
على العكس، فشلت معاهدة فرساي لأنها فرضت تعويضات ساحقة على ألمانيا، مما أدى لاحقًا إلى صعود النازية.
كذلك، ينبغي أن تكون هناك قوة عسكرية لحفظ السلام، لأن الوعود الفارغة وحدها لا تكفي.
ووفق المجلة فإن أي اتفاق سلام في أوكرانيا لن يكون مثاليًا، لكنه قد يكون الخطوة الأولى نحو استقرار طويل الأمد.
وإذا كان الهدف هو منع تصعيد جديد، فإن الحل العملي هو وقف إطلاق نار مدعوم بقوة عسكرية حقيقية، مع ضمانات أمنية قوية لمنع العدوان المستقبلي، إضافة إلى خطة لإعادة الإعمار الاقتصادي.
وأشارت المجلة إلى أنه قد لا يكون هذا السلام النهائي، لكنه قد يضع الأساس له.
aXA6IDE4LjIyMi4yMjAuODAg جزيرة ام اند امز