حكم الفرد هو المسار الإجباري نحو الاستبداد، والاستبداد يؤدي إلى الفساد الذي يُعتبر الجسر الطبيعي للثورة!
من يملك السلطة في يده، هل يمتلك وحده -دون سواه- الحق في فعل أي شيء وكل شيء؟
سؤال فرض نفسه منذ أن عرفت البشرية أول دولة في التاريخ.
وأصبح السؤال التاريخي: هل دور الحاكم الوظيفي أن «يحكم الشعب» أم أن «يحكم بالشعب»؟!
أن تحكم الناس هو أسلوب ومنهج يختلف تماماً عن أن تحكم بهم ومن خلالهم ومن أجلهم.
لقد علّمنا التاريخ، وهو خير معلم، أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وأن هذا الأمر هو السبب الأول في زوال أكبر وأعظم الحضارات التي سادت ثم بادت!
في القرون الوسطى، عرفت أوروبا الأنظمة الملكية والإمبراطورية التي كان فيها الحاكم يردد ما قاله «الفرعون، والقيصر، والأمير، والملك، والإمبراطور»: إنني أدرى منكم بشؤون دنياكم، أعرف ما لا تعرفون، وعندي من المعطيات ما ليس لديكم، لذلك دعوني أفعل ما هو لصالحكم.
باختصار، كان الملك، الأمير، الإمبراطور يقول لشعبه: «دعوني أحكم وحدي».
الوحدانية في الحكم تؤدي إلى حكم الفرد، وحكم الفرد هو المسار الإجباري نحو الاستبداد، والاستبداد يؤدي -حكماً- إلى الفساد الذي يُعتبر الجسر الطبيعي للثورة!
من هنا جاءت نظرية «مونتسكيو» في فرنسا، القائمة على أن السلطات ثلاث: تنفيذية وتشريعية وقضائية، والشعب وحده هو مصدر السلطات، لذلك كان الرجل يقول: «إذا أردت أن تعرف أخلاق أي رجل فضع السلطة في يده ثم انظر كيف يتصرف»!
جاءت هذه النظرية العبقرية لتؤدي -في حال تطبيقها- إلى توازن السلطات وتحقيق الرقابة الشعبية على السلطة التنفيذية من خلال ممثلي الشعب تحت سقف العدالة في دولة القانون.
وعرف الفكر السياسي مشروع الدولة المدنية القانونية التي تتحرر من السلطات الدينية أو الطبقية أو سلطات الأجهزة.
والسلطة في حد ذاتها ضرورة أساسية لأي نظام، لذلك جاءت الحكمة الفرنسية: انعدام السلطة يُحدث الفساد، وانعدامها بسلطة مطلقة يُحدث الفساد المطلق.
والطريق إلى غضب الجماهير، وهو الأمر الذي نراه ورأيناه في شوارع وساحات إيران والسودان والجزائر ولبنان والعراق وسوريا، يعود إلى «احتكار السلطة» في يد «فرد» أو «طبقة» أو «مؤسسة» أو «حزب» أو «جماعة».
توسيع قاعدة المشاركة في صناعة القرار عمل صعب للغاية، لكنه هو الحل الوحيد لضمان سلامة القرارات العليا للبلاد.
أحياناً تخطئ الديمقراطية، وأحياناً تصبح عبئاً على أصحابها مثل:
1- سوء اختيار الشعب البريطاني لقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي والفاتورة المؤلمة الباهظة التي يدفعها الشعب البريطاني لإيجاد مخرج تشريعي من هذا المأزق التاريخي.
2- حالة الجمود والتمترس السياسي في صراع الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة التي حولت البرلمان (الشيوخ - النواب) إلى ساحة تحقيق وليس سلطة رقابة وتشريع.
3- حالة برلمان كل من الأردن والكويت التي أصبحت فيها سلطة التشريع معطلة للسلطة التنفيذية، مما أدى إلى إسقاط البرلمان في هذين البلدين أكبر عدد من الحكومات في العقود الأخيرة، مما يعطل أي إمكانية لأي إنجاز حقيقي.
من هنا تأتي عبقرية النخبة السياسية المؤثرة في أي بلد من إبداع «صيغة مناسبة» للزمان والمكان، توازن بين الأحلام والواقع، والإيرادات والمصروفات، والإمكانيات والتحديات، بحيث تصبح قابلة للتطبيق بشكل كفء وناجح وآمن بأقل قدر من المخاطر السياسية وأقل قدر من الخسائر الاجتماعية.
العبرة في «صيغة الحكم» هي القدرة على تحقيق أكبر قدر من الإنجاز بأقل قدر من الخسائر من أي نوع في أسرع وقت.
من هنا يتعين دائماً على صانع القرار في أي زمان ومكان أن ينفتح على كل الآراء والاجتهادات ويوسع قاعدة مستشاريه حتى يصل إلى أفضل الحلول.
لقد علّمنا التاريخ، وهو خير معلم، أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وأن هذا الأمر هو السبب الأول في زوال أكبر وأعظم الحضارات التي سادت ثم بادت!
من هنا يجب أن نتوقف طويلاً أمام عبارة قاتلة قالها الخليفة المأمون وهو يتصارع من أجل الخلافة، وهي السبب في زوال خلافة أسرته: «الجالس على العرش هو وحده صاحب الحق والحقيقة»!
من هنا علينا أن ندرك أن فساد الحاكم يؤدي إلى فساد الحكم، وبالتالي إلى انتشار المظالم.
ومن هنا أيضاً علينا أن نضع ذلك التحذير الواضح القاطع من سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام أمام أعيننا وهو يحدثنا عن الظالمين: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجلاً استأجر أجيراً واستوفى منه ولم يعطه أجره»، وكذلك قوله تعالى: «إن الشرك لظلم عظيم»، وقوله عليه السلام: «اتقوا الظلم فإن الظلم في الدنيا ظلمات يوم القيامة».
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة