التوجه الأوروبي لهواوي: قراءة في ردود الأفعال والتداعيات
على خلفية العقوبات الأمريكية، تخطط شركة هواوي لتصنيع وإنتاج معداتها في مصنع لها بأحد المواقع بالقارة الأوروبية.
تسعى شركة هواوي على خلفية العقوبات الأمريكية المفروضة عليها إلى تنويع شركائها وتغيير وجهتها إلى أوروبا وكندا على وجه الخصوص، وهو الأمر الذي تسعى الولايات المتحدة جاهدةً لتقويضه وعرقلته عن تحقيق الأهداف المرجوة منه، وذلك من خلال الضغط على الشركاء الأوروبيين، وإبطاء عملية رفع العقوبات المفروضة عليها. وهو ما يثير التساؤلات عن مواقف الدول الأوروبية من هواوي وسط الضغوط الأمريكية المتنامية عليها.
سياسات هواوي ودلالاتها
على خلفية العقوبات الأمريكية، تخطط شركة هواوي (عملاق التكنولوجيا الصيني) لتصنيع وإنتاج معداتها في مصنعٍ لها بإحدى المواقع بالقارة الأوروبية. وفي هذا السياق، تعمل الشركة بالفعل على دراسات الجدوى اللازمة لافتتاح ذلك المصنع. وبموجب تلك الدراسات، سيتم تحديد الدولة المرشحة لذلك، ومن المتوقع أن يتم افتتاح ذلك المصنع في القريب، كما تخطط الشركة لتغيير وجهتها إلى كندا؛ فمن المقرر أن ينتقل مركز البحوث والتنمية التابع لشركة هواوي من الولايات المتحدة إلى كندا.
ويعكس ذلك توجه هواوي لإنشاء مصنعٍ ضخمٍ بقدراتٍ جديدةٍ لتصنيع الهواتف بتكنولوجيا الجيل الخامس، بهدف تهدئة المخاوف النابعة من الادعاءات الأمريكية التي تتهم الشركة بالتجسس لصالح الصين، والتي دأبت الشركة على نفيها. كما يدلل ذلك أيضًا على اتجاه هواوي للاستثمار وبقوة في القارة الأوروبية؛ حيث أعلنت خططا لإنفاق 40 مليار دولار على الإمدادات الأوروبية، بهدف تنويع قاعدة إمداداتها، فلا تعتمد على الشركات الأمريكية للحصول على الإمدادات اللازمة من الشرائح الإلكترونية وغيرها من المكونات، ويأتي ذلك على خلفية فرض الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على الشركات الأمريكية الرائدة (على شاكلة مايكرون، وكوالكوم، وإنتل) وقف التعامل مع هواوي.
وجدير بالذكر افتتاح هواوي لمراكز شفافية الأمن السيبراني في بلجيكا في مارس/آذار 2019، ليدلل على التزام هواوي بحماية الأمن السيبراني للحكومات والعملاء وغيرهم من الشركاء في أوروبا من ناحية، ويوفر منصة لعملاء هواوي للتحقق من أمن المنتجات من ناحيةٍ ثانية، ويرسي المعايير الأمنية المناسبة لتسهيل الابتكار التكنولوجي في مختلف القطاعات من ناحيةٍ ثالثة.
وجدير بالذكر أيضًا، أنه على مدار العقدين الماضيين، أسست هواوي عددًا من مراكز الأبحاث والمكاتب الإقليمية فيما يزيد على 30 دولة أوروبية، وقد قدّر أحد التقارير الصادرة عن Oxford Economics في العام الماضي أن هناك ما يقرب من 170 ألف وظيفة تعتمد على منتجات هواوي عبر سلاسل التوريد المختلفة.
رد الفعل الأمريكي
ردًا على توجه هواوي لأوروبا لتنويع مصادرها وضمان حصولها على المكونات الضرورية لها، تعددت القيود التجارية المنصوص عليها في قانون الدفاع الأمريكي الجديد الذي رفضته الصين، وأكدت تدخله المباشر في شؤونها الداخلية؛ إذ يمنع ذلك القانون -الذي تم إقراره في ديسمبر الجاري- استخدام الأموال الفدرالية لشراء مقطوراتٍ وحافلاتٍ من الصين، كما يُبطئ رفع العقوبات المفروضة على شركة هواوي. وهو ما يعني معاداة القانون للشركات الصينية.
فمن المتوقع أن يؤثر القانون بالسلب في أرباح شركتي "سي آر آر سي كورب" (الحكومية الرائدة في مجال صناعة المقطورات) و"بي واي دي موتورز" (التي تبيع الحافلات الكهربائية للولايات المتحدة). كما يحول القانون دون شطب شركة هواوي من القائمة السوداء التابعة لوزارة التجارة الأمريكية التي تحظر على الشركات الأمريكية التعامل معها.
وبالتوازي مع ذلك حذر مستشار الأمن القومي الأمريكي "روبرت أوبراين" المملكة المتحدة من سماح الأخيرة لشركة الاتصالات الصينية هواوي بتأسيس شبكات الجيل الخامس في البلاد، قائلًا: "إن مثل هذه الخطوة ستشكل خطرًا على أجهزة المخابرات السرية البريطانية." وأكد "أوبراين" على أن قرار الاستعانة بها هو قرار سياسي لا تجاري، ينال من الأمن القومي بالدرجة الأولى؛ نظرًا لقدرة هواوي على سرقة أسرار الدول، بما في ذلك الأسرار النووية وأسرار الأجهزة الأمنية.
تحث واشنطن المملكة المتحدة على الحظر التام من هواوي، غير أن تحذير "أوبراين" يرفع الضغوط الأمريكية إلى مستوى جديد، في الوقت الذي يقرر فيه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون حظر/عدم حظر شركة هواوي من تأسيس شبكات الجيل الخامس في البلاد. وترجع الضغوط الأمريكية على بريطانيا لكونها إحدى شركاء تحالف العيون الخمس (Five Eyes) إلى جانب الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، حيث تتشارك تلك البلدان المعلومات الاستخباراتية المهمة.
الموقف الأوروبي
تقع أوروبا بين مطرقة الصين وسندان الولايات المتحدة؛ ففي الوقت الذي يرغب فيه عدد من الدول الأوروبية في تجنب غضب بكين (الشريك التجاري الأهم والأبرز)، تكررت التحذيرات الأمريكية من الاستعانة بهواوي إلى حد التلويح بإعادة النظر في عملية تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الدول التي تستعين بها.
وبين هذا وذاك، طالبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الاتحاد الأوروبي باتباع نهجٍ موحدٍ مشتركٍ مع الصين، خاصة مع طرح الجيل التالي من شبكة الجيل الخامس للهواتف المحمولة، وفي خطابها أمام البرلمان الألماني أوضحت ميركل "إن أحد أكبر الأخطار التي تراها هو اتباع كل دولة أوروبية سياسة خاصة عند التعامل مع الصين". وأكدت أن هذا الأمر لن يكون كارثيًا على الصين فحسب، بل على أوروبا أيضًا.
وبالفعل، وافق الاتحاد الأوروبي على تبني مقاربةٍ شاملة، تشمل الاستعانة بأطرافٍ موثوقةٍ في المكونات المهمة للأمن القومي، مع النظر في قوانين بلد الموطن الأصلي قبل شراء منتجاتها، ويؤكد المسؤولون الأوروبيون من جانبهم على إقرار تلك السياسات لحماية مصالحهم لا استرضاء أي قوى خارجية.
ترى الولايات المتحدة في الاستنتاجات الأمنية الجديدة للاتحاد الأوروبي واهتزاز الثقة الأوروبية في شركة هواوي دليلًا على نجاح الضغوط الأمريكية على الشركاء الأوروبيين. ففي هذا السياق، صرح نائب مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية للسياسة الإلكترونية (روب سترر) "لقد سررنا جدًا برؤية النتائج التي توصل إليها مجلس الاتحاد الأوروبي بشأن شبكات الجيل الخامس". كما قال وكيل وزارة الخارجية للنمو الاقتصادي والطاقة والبيئة (كيث كراش): "أود أن أحيي قيادة الاتحاد الأوروبي على الموقف الذي اتخذوه بشأن تأمين شبكات الجيل الخامس".
ويتأسس الموقف الأمريكي على اهتزاز ثقة الدول الأوروبية بشركة هواوي التي لا يمكنها الوفاء بمعايير الأمن المشترك على الرغم من صعوبة الجزم بتداعيات ذلك على الوضع الحالي لهواوي في أوروبا، فبموجب قانون الاتحاد الأوروبي الحالي، يمكن للدول الأعضاء حظر البائعين من أسواقها؛ لذا، من المتوقع أن تعدل الدول الأوروبية عددًا من تشريعاتها الوطنية أو توافق على استبعاد الشركات والدول التي لا تحظى بالثقة، وفي اتجاهٍ مضاد، أكد متحدث رسمي باسم شركة هواوي على ترحيبها بالنهج القائم على الحقائق في الاتحاد الأوروبي، مضيفًا أن الشركة الصينية شريك موثوق به في جميع أنحاء أوروبا، وأن شبكات الجيل الخامس آمنة ومبتكرة.
الموقف الألماني
من بين المواقف الأوروبية، يجدر تسليط الضوء على الموقف الألماني وتحليل دلالاته؛ ففي الوقت الذي أعلنت فيه شركة الاتصالات الألمانية Deutsche Telekom AG (أكبر شركة اتصالات في البلاد) وقف طلبات شراء معدات الجيل الخامس بسبب وضع هواوي غير المؤكد، تصر "ميركل" على عدم حظر أي من الموردين وفي مقدمتهم هواوي. وتعد ألمانيا إحدى الدول المرشحة وبقوة لتأسيس مصنع هواوي الذي سبق الإشارة إليه، بالنظر للسياسات الألمانية تجاه هواوي.
وتبرز أهمية الموقف الألماني بفعل تأثير كرة الثلج الذي تملكه نتيجة قدرته على التأثير في غيره من المواقف الأوروبية؛ فاستبعاد هواوي من قبل ألمانيا قد يشجع غيرها من الدول على استبعادها أيضًا. وجدير بالذكر أن غالبية الدول الأوروبية لم تتخذ قرارًا نهائيًا بشأن الاستعانة بشركة هواوي من عدمه؛ ففي الوقت الذي أعلنت فيه المجر عن نيتها لاستبعادها نهائيًا، يحتمل أن يستبعدها أيضًا كل من: بولندا وإستونيا والدنمارك.
وتتجلى أهمية الموقف الألماني أيضًا في قدرته على زعزعة التوازن الدقيق بين واشنطن وبكين، وهما أكبر شريكين تجاريين لألمانيا خارج أوروبا. ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تقويض الاقتصاد الألماني المتعثر بالفعل، ويدفع البلاد وأوروبا إلى مواجهة بكين، ولا ترغب "ميركل" في إنهاء حكمها الذي دام لمدة 16 عامًا كمستشارة ألمانية بمواجهة الصين، وبخاصة مع تدشين آليةٍ جديدةٍ لفحص الاستثمارات الأجنبية.
كما تعتمد شركات صناعية ألمانية كبرى على الأسواق الصينية؛ بدءًا بشركة سايمنز وصولًا إلى مجموعة باسف BASF للمواد الكيميائية. وفد تعرضت تلك الشركات لهزاتٍ عنيفةٍ جرّاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتعريفة ترامب للسيارات. ولا ترغب تلك الشركات في استثارة غضب الصين في ظل حاجتها إلى الأسواق الصينية. وعلى الرغم من ذلك، أعلنت مجموعة Vodafone Group Plc فرض حظرٍ كاملٍ على معدات هواوي في شبكاتها الأوروبية، على الرغم من الفجوة الكبيرة بين الموردين الأوروبيين لمعدات الجيل الخامس (مثل: نوكيا وإريكسون) من ناحية، وشركة هواوي من ناحيةٍ أخرى.
أبرز الدلالات
تستغل شركة هواوي الانقسام الأوروبي بشكلٍ كبيرٍ للتحول عن الأسواق الأمريكية وتثبيت دعائمها في أوروبا، يساعدها على ذلك اختلاف وضع الأخيرة عن غيرها من الدول على شاكلة الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان، كما تستغل أيضًا الانقسام الأوروبي وتشرذم المواقف الأوروبية من هواوي؛ وهو ما عبر عنه الرئيس "ماكرون" بقوله: "فشلت أوروبا ببساطة في التنسيق بشأن هذه القضية، بعد أن تم تفويض القرارات والخيارات السيادية لمشغلي الاتصالات بحكم الواقع".
كما تستغل هواوي أيضًا قدرتها على اختراق الأسواق الأوروبية المجزأة التي تضم مئات المشغلين، وعشرات المعايير والإجراءات الأمنية الوطنية، بعد أن تراجعت قدرتها على وضع المعايير الدولية. ناهيك عن قدرتها على تقديم خدماتها بأسعارٍ مخفضة، سمحت لها بالاستحواذ على 30% من عقود شبكات الجيل الخامس حول العالم، وتتجلى أهمية ذلك بالنظر إلى تكامل سلاسل التوريد الخاصة بصناعة الجيل الخامس وتقنيات المعلومات والاتصالات على مستوى العالم.
ومن جانبها، رحبت الصين بنهج الحكومتين الألمانية والفرنسية في الأمن السيبراني ونشر شبكات الجيل الخامس، لتؤكد قدرة شركة هواوي على الوفاء بمعايير الأمان الأكثر صرامة على طول سلاسل الإمداد والتوريد، في ظل النهج المتكافئ والمنافسة العادلة والمفتوحة، ما يمنح أوروبا السيادة الرقمية الحقيقية في المستقبل؛ إذ تساعد المنافسة الصحية جميع الموردين على الإبداع والتنافسية.
ودون مساعدة هواوي في إنشاء شبكات الجيل الخامس، تتخلف أوروبا عن قيادة الثورة الصناعية الرابعة، وتطوير إنترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، ولن تحصل على الفوائد الكاملة التي يمكن أن يحققها الاقتصاد الرقمي، وستجد أوروبا صعوبة في تحقيق أهدافٍ أخرى على صعيد الصناعة والمعيشة الذكية التي تقلل بدورها الأعباء على موارد الكوكب الشحيحة والحالة المناخية الهشة.
التداعيات المحتملة
قد تسهم هواوي وتوجهها الأوروبي في دفع السيادة الرقمية الأوروبية قدمًا في العام المقبل. وتشير تلك السيادة إلى اتخاذ القرارات بشكلٍ مستقلٍ عن الضغوط السياسية من مختلف اللاعبين الآخرين. وترادف تلك السيادة أيضًا تطوير بدائل أوروبية للبنية الأساسية والمنصات الرقمية الرئيسة التي تهيمن عليها الولايات المتحدة. فمن شأن ذلك أن يدفع الاستثمار في التقنيات الرقمية التي تعد مفتاح المستقبل والتي تعد عاملًا حاسمًا في ضمان السيادة التكنولوجية، وتشمل أبرز التقنيات كلًّا من: الذكاء الاصطناعي، والبلوك تشين، والحوسبة السحابية، وغيرها.
يتجاوز دور هواوي الاستثمارات المالية لتساعد مختلف الدول الأوروبية على امتلاك التقنيات الأساسية، ووضع المعايير العالمية لاستخدامها، وتبادل ونقل التكنولوجيا. وقد يصبح نظام التشغيل الصيني الجديد (هارموني OS) دافعًا لتطوير نظام تشغيل أوروبي متطور؛ إذ ترتبط السيادة الرقمية ارتباطًا وثيقًا بخطط أوروبا لتعزيز إمكاناتها التكنولوجية وتحقيق القيادة كقائدٍ عالمي للتجارة القوية والمفتوحة والنزيهة، مع احترام معايير الخصوصية.
ومن شأن العام المقبل أن يكون حاسمًا على صعيد علاقة الصين بالاتحاد الأوروبي، وسيعتمد نجاح تلك العلاقة على السماح لشركة هواوي باستغلال سوق شبكات الجيل الخامس في أوروبا من ناحية، والمفاوضات حول اتفاقية الاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي من ناحيةٍ أخرى. وعليه، قد يمهد الاتحاد الأوروبي الطريق للشركات الصينية للاستثمار في القطاعات الرئيسة، مثل: الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والصحة، والخدمات المالية، والتصنيع، وغيرها. وقد يكبح جماح الاستثمارات الصينية فتنتقل إلى أماكن أخرى. ولا شك في مطالبة الاتحاد الأوروبي بوقف عمليات النقل القسري الصيني للتكنولوجيا، وإزالة إجراءات التفويض التمييزية، وتحسين الشفافية.
وختامًا، لا يمكن للاتحاد الأوروبي أو الصين أن يتجاهلا الولايات المتحدة، وخاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي لا بد وأن تطال بتداعياتها علاقة الولايات المتحدة مع الصين والقارة العجوز، وفي القلب منها الصراع التكنولوجي المحتدم على شبكات الجيل الخامس. فمن الصعب تخيل اندلاع حرب تجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي في ظل الحرب التجارية المشتعلة بالفعل بين الصين والولايات المتحدة، ولكن على الاتحاد الأوروبي أن يحدد بشكل قاطع حدود علاقاته التجارية مع الصين بصرف النظر عن الضغوط الخارجية.