قبل أكثر من قرن، وتحديدًا في عام 1923، اجتمع عدد من مسؤولي الشرطة من عشرين بلدًا في العاصمة النمساوية فيينا؛ بهدف إنشاء آلية للتعاون الشرطي الدولي.
وكان ذلك الاجتماع بمنزلة النواة التي انطلقت منها المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول)، التي طُوِّرَت لتصبح اليوم أكبر قوة شرطة دولية في العالم تضم في عضويتها 196 دولة.
وعلى مرِّ السنين ظلت مهمة الإنتربول ترتكز على تعزيز التعاون الدولي في مجال إنفاذ القانون، ومكافحة الجريمة بمختلف أشكالها. وعند النظر إلى دور المنظمة ومهامها، ونتائج أنشطتها وعملياتها؛ سنجد الكثير من الجوانب الإيجابية التي تحمل في طياتها تأثيرًا مباشرًا في المجتمع، مثل الحفاظ على الأمن العام، وحماية الأرواح والحقوق والممتلكات، وتعزيز الشعور بالأمن والأمان، وتحقيق العدالة، وتعزيز الثقة بالنظام القضائي، ودعم التنمية الاقتصادية والتعاملات المالية السليمة؛ وهذه المعطيات تحمل في طياتها عنوانًا عريضًا يتلخص في دعم المجتمع من خلال الارتقاء بحياة الأفراد؛ وبناء مجتمعات متطورة ومزدهرة.
وفي الواقع هناك علاقة قوية بين ازدهار المجتمع، ومعدلات الجريمة فيه؛ فعادةً ما ترتبط الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدنية بمعدلات جريمة أعلى؛ بينما تميل المجتمعات الأكثر ازدهارًا إلى معدلات جريمة أقل.
وهذه العلاقة معقدة، وتتأثر بعوامل مختلفة؛ ولكن بصورة عامة يمكننا القول: عندما تكون سيادة القانون حاضرة تزدهر الأعمال؛ وتصبح الاستثمارات أكثر أمانًا؛ وتتمكن الأسر من التخطيط لمستقبل أبنائها بثقة. وعلى النقيض عندما تستشري الجريمة؛ وتعمُّ حالة عدم الاستقرار؛ يتعثر الاقتصاد، أو تنهار المنظومات، وتتضرر المجتمعات.
وهذه العلاقة ليست مجرد نظرية؛ إذ تؤكدها الدراسات والبحوث العالمية باستمرار؛ فعلى سبيل المثال غالبًا ما تحرز الدول ذات معدلات الجريمة المنخفضة درجات أعلى في مؤشرات السعادة. وفي تقرير السعادة العالمي تتصدر دول الشمال الأوروبي، مثل فنلندا والدنمارك، المعروفة بأمانها، المراتب الأولى في مؤشرات الرضا عن الحياة ورفاهية المواطنين. وفي المقابل تميل الدول التي تعاني معدلات عالية من العنف والجريمة، مثل فنزويلا وجنوب إفريقيا، إلى الحصول على درجات أقل في مؤشرات السعادة وجودة الحياة. وفي هذا الإطار تُعدُّ دول الخليج، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، التي جاءت الأولى عربيًّا في تقرير السعادة العالمي لعام 2025، من الدول التي تشهد معدلات منخفضة من الجريمة.
ولكن في عالم يزداد ترابطًا يومًا بعد يوم أصبحت الجريمة عابرة للحدود بكل ما تعني الكلمة، من الهجمات الإلكترونية إلى الاتجار بالبشر، ومن الجرائم البيئية إلى الفساد والإرهاب. وباتت التهديدات التي نواجهها اليوم عالمية بطبيعتها، وتتطلب استجابةً موحدةً على المستوى الدولي، استجابةً تتعدى الحدود، وتتخطى جغرافية المكان بهدف تعزيز التعاون والتنسيق؛ وتبادل المعلومات؛ ودعم أجهزة إنفاذ القانون عبر القارات.
وتكمن قوة منظمة الإنتربول في قدرتها على ربط أجهزة الشرطة في العالم، وتوفير منصة لتبادل المعلومات وأفضل الممارسات بسرعة وفاعلية. وهي تسهم يوميًّا في تفكيك شبكات إجرامية، واسترداد الأصول المسروقة، وتقديم الهاربين للعدالة. ولكن الأمر لا يقتصر على القبض على المجرمين فحسب؛ بل يشمل كذلك حماية المجتمعات، ودعم الضحايا، وترسيخ سيادة القانون.
وينبغي لنا جميعًا بذل المزيد من الجهود لتعزيز التعاون والتنسيق بين أجهزة إنفاذ القانون؛ فلا يوجد بلد –مهما كبر أو صغر– بمنأًى عن الجريمة؛ ولهذا توفر منظمة الإنتربول إمكانياتها وقدراتها كافةً لدعم جميع الدول الأعضاء في مواكبة المشهد الإجرامي المتغير، والتعامل معه بكفاءة واستباقية؛ خاصةً أن شبكات الجريمة المنظمة تتبنى ممارسات غير مسبوقة لدعم عملياتها الإجرامية.
وتواجه المنظمة هذه التحديات بشكل مباشر من خلال اعتماد نهج عالمي حقيقي في إنفاذ القانون، وقيادة وتنسيق مجموعة من العمليات الموجهة والفعالة في مختلف أنحاء العالم، والاستثمار في التقنيات الحديثة، وتعزيز الشراكات، وبناء القدرات.
ونحن لا نستطيع النجاح وحدنا؛ فالحكومات والهيئات والقطاع الخاص، بل حتى الأفراد، جميعهم شركاء في بناء مجتمعات قادرة على مواجهة التحديات، ودعم العدالة. وتواصل المنظمة مساعيها لبناء قدرات أجهزة إنفاذ القانون لدى الدول الـ(196) الأعضاء كافة، كما تشجع على الاستفادة من قواعد بيانات الإنتربول الـ(19)، وتوظيف المعلومات والبيانات التي توفرها للتصدي للشبكات والمجموعات الخارجة عن القانون.
وهذه ليست سوى أمثلة قليلة فقط على إسهام الانتشار العالمي للإنتربول وخبراتها في تعزيز أمن الأفراد والمجتمعات؛ إلى درجة أصبح من الصعوبة بمكان تخيُّل عالمنا من دون منظمة الإنتربول.
إنني واثق تمامًا بأن منظمة الإنتربول ستواصل دورها المحوري في حماية الإنسان، وبناء أمن مجتمعاتنا وسلامتها؛ فمن خلال مكافحة الجريمة المنظمة، وتفكيك الشبكات الإجرامية، وحماية الفئات المستضعَفَة؛ نرسخ الأسس التي تضمن حماية الإنسان ورفاهية الأوطان؛ فالأمن والاستقرار هما حجر الأساس لبناء مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا للأجيال القادمة.
نقلا عن منصة "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة