الامام الشافعي.. صاحب أصول الفقه "شمس الدنيا وعافية الناس"
سيرة الامام الشافعي ثالث الأئمة وإمام المجددين الأجلاء، منذ نشأته كطفل وحيد يعاني الفقر، حتى انتشار علمه من مصر إلى ربوع الأرض كافة.
جاء الامام الشافعي إلى مصر يبحث عن العلم، فرحل فيها تاركا علما أسس لأصول الفقه، ومذهب ديني نشأ من أرض الكنانة وانتشر نحو أهل الأرض جميعا، فما زالت مصر بعد ما يقرب من 1200 عام هجري تتبع مذهبه، ويستقي المسلمون من مدرسته الفكرية الفقهية.
الامام الشافعي
هو الإمام المجدد الذي جمع بين أهل الرأي وأهل الحديث، اتصف بالذكاء وقوة المناظرة، كما عاش متبحرا في العلم ساعيا له.
حياة الامام الشافعي باختصار
"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها" حديث رسول الله صلى الله عليه وسلك الذي انطبق على الامام الشافعي إمام المجددين،
الذي يقول عنه الشيخ علي جمعة "لم يتبقَ من أمر التجديد شئ إلا وأتى به الشافعي" في إشارة إلى علمه االواسع الذي ما زلنا نُبحر فيه وننهل منه.
لكن كيف عاش الامام الشافعي حياته؟ ما الذي أضناه؟ وكيف وجد ضالته في العلم؟ رجحت آراء العلماء أن الامام الشافعي ولد في غزة عام 150 هجريا،
رغم شيوع أقوال أخرى تذكر أن ولادته كانت في عسقلان (إحدى مدن فلسطين القديمة) أو اليمن.
"اسمه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد بن يزيد
بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن
فهر بن مالك بن النضر (قريش) بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن
معد بن عدنان الشافعي المطلبي القرشي"
يشترك الامام الشافعي في نسبه مع النبي الكريم في عبد مناف بن قصي، عاش حياة قاسية، فاضطر أن ينشأ طفلا يتيما وحيدا فقيرا،
بعد أن توفي والده وهو بعمر السنتين، فما كان من والدته إلى أن ترتحل به إلى مكة، حيث محل نسبه الأصلي لينشأ وسط أهله، وفيها تعلم القرآن الكريم وأتم حفظه كاملا وهو ما زال في السابعة من عمره.
قصة والد الإمام الشافعي
قال عنه الإمام أحمد بن حنبل، الذي تتلمذ على يده "إن الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للماس".
ينتسب الامام الشافعي إلى قريش، ووالده هو إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي المطلبي القرشي.
لم يُخلد في ذهنه كثير عن أبيه، كونه رحل وهو بعد طفلا لم يبلغ العامين، فتكفلت أمه برعايته وعانت حتى يلقى من العلم ما يرغب،
وأنشأته نشأة حسنة رغم فقر الحال.
قصة الإمام الشافعي مع أمه
ويمكن أن يعود الفضل لأمه في كثير مما ناله، فلولاها ما تمكن من طلب العلم، وما كُتب له أن يعيش في كنف أهله وألا يضيع نسبه الشريف،
فبعد وفاة والده وهو ما زال طفلا بعمر العامين، قررت أمه أن تنتقل معه إلى مكة ليتصل بنسبه كأحد أبناء قريش، ولكن لم تكن حياته هنيئة بمقدار المنزلة التي يحملها.
عاش الامام الشافعي طفولة معدمة لم يجد فيها أبسط احتياجاته، ولكنه نشأ نشأةً مهذبة قوّمت أخلاقه،
واستطاعت والدته فاطمة بن عبد الله الأزدية- بترجيح أغلب العلماء- أن ترعى ابنها في ظل ظروف معيشة قاسية، وطبيعة هذا العصر التي يمكنها أن تجعل من رعاية أم وحيدة لابنها أكثر صعوبة.
حرصت على أن ينال من العلم ما يرغب، وتعلم منها المثابرة والإصرار على إتيان العلم، والتصدق رغم ضيق الحال، وقول الحق دون خشية لائم أو سلطان،
وكانت تأذن له بالسفر إلى حيث يمكنه أن يستزيد من العلم، وكان مع أسفاره يعود إليها يطمئن لحالها ويستنصح بنصائحها.
رسائل الإمام الشافعي وقصته
كان مقبلا على العلم والمعرفة، رغم أوضاعه المعيشية الضعيفة، مما نمّى لديه مهارة الحفظ والإجادة،
وبعد القرآن الكريم أقبل على حفظ الحديث الشريف ثم كتاب الموطأ للإمام مالك وحفظه وهو ابن العاشرة، وسلك نهج العلم بداية من اللغة العربية التي أراد تمام إجادتها، فقرر أن يلازم قبيلة "هذيل" التي كانت أفصح العرب.
وأجاد اللغة العربية ونظم الشعر وأتقنه، للدرجة التي مكنته من تصحيح شعر الهذيليين- كم يروى عن الأصمعي- وبعد عودته إلى مكة تتلمذ على يد علمائها وفقهائها،
ومنهم مفتي مكة مسلم بن خالد الزنجي حتى بلغ شأنا عظيما، فقال له الزنجي "افتِ يا أبا عبد الله، فقد آن لك أن تفتي".
الشافعي وملازمته للإمام مالك
عاصر الشافعي الإمام مالك وأراد أن يتتلمذ على يديه، ولم يملك الجرأن يذهب له دون استعداد لما يمتلكه مالك من هالة العلماء وجلالهم،
فحصل على توصية من والي مكة إلى والي المدينة والإمام مالك بن أنس حتى تُكتب له الفرصة ويتعلم من فيض مالك الوفير.
ويذكر الامام الشافعي أول مرة التقى فيها بالإمام مالك، كما ذكر مناقب الشافعي للرازي:
"إذا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية.. فرفع إليه الوالي (والي المدينة) الكتاب.. فرمى الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله، أو صار علم رسول الله يؤخذ بالوسائل.
فرأيت الوالي قد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله إني رجل مطلبي ومن حالي وقصتي.. فلما سمع كلامي نظر إلى ساعته، وكان لمالك فراسة، فقال ما اسمك؟ قلت: محمد، فقال لي: يا محمد اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، إن الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بالمعصية".
لازم الامام الشافعي أستاذه ومعلمه وثاني الأئمة الإمام مالك بن أنس حتى وفاته عام 179 هجريا،
ثم عمل قاضيا ينصف المظلومين ويحتكم إلى العدل دون سواه، وانتقل إلى اليمن ينصح واليها الظالم ويحاول رد مظالمه، وبعدها كانت وجهته بغداد عام 184 هجريا.
وفي العراق، أخذ الامام الشافعي على دراسة فقه العراقيين وقرأ كتب الإمام محمد بن الحسن الذي كان تلميذا للإمام أبو حنيفة،
فكأنما كُتب للإمام الافعي أن يجمع بين علم مذهب الإمام مالك ومذهب أبو حنيفة، ويتبحر في الفقه الذي ميغلب عليه النقل وذلك الذي يحكمه العقل، حتى ارتفع قدره وعلا ذكره، وكان له السابقة في تاصيل الأصول وسن القواعد.
تأسيس علم أصول الفقه
صار الامام الشافعي يمتلك معرفة واسعة بالفقه، سواء من اهل المدينة ومذهب الإمام مالك، أو أهل العراق ومذهب أبو حنيفة،
ولكن تبين أن لديه رغبة في إرساء فقه جديد يمزج بينهما ويضيف له من خبرته وقراءاته، وقرر أن يضع مقاييس وضوابط كل شأن من شئون الشريعة الإسلامية، بداية من الحديث والسنة، وحتى شروط الاجتهاد وطرق الاستدلال وأصول الاستنباط وبيان الناسخ والمنسوخ.
وذهب بما خلص إليه إلى الفقهاء في بغداد عام 195 هجريا، وقدم لهم علم أصول الفقه الذي يحمل قواعد كلية عامة لا فروع جزئية وفتاوى خاصة،
كأنه يضع للفقه ضوابط يحتكم إليها الجميع، على أن يكون هناك معيار للقياس يمكن الرجوع إليه عند الاختلاف، وكتب كل ما توصل له في كتابه "الرسالة".
الشافعي صاحب مصر ووفاته
عام 199 هجريا سافر الشافعي إلى مصر، يقال تلبية لدعوة واليها العباس بن عبد الله، أو طلبا للاستقاء من علم الليث بن سعد وتلاميذه،
ولكنه عندما حضر إلى مصر وجد أهلها متفرقين ما بين مذهبي الإمام مالك والإمام أبو حنيفة، ليرحل فيها وهم على مذهبه الشافعي.
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر
ومن دونها قطع المهامة والفقر
فوالله ما أدري، الفوز والغنىأساق إليهما أم أساق إلى القبر
وفي مصر أعاد تصنيف كتابه "الرسالة" ليتوافق مع المستجدات التي عايشها، وكما واجه اعتراض أصحاب المذاهب وناضل لأجل الشريعة الإسلامية،
وجد كذلك الترحاب والإجلال لعلمه الغزير الوافر وحكمه العادل، فأحبّه المصريون وعظموه، ومنها انتشر مذهب الشافعية إلى العالم أجمع، غربه وشرقه وشماله وجنوبه، وتوفي بها في عام 204 هجريا عن عمر 54 عاما.
هل تزوج الإمام الشافعي
كثُرت الأقاويل أن الأئمة الأربعة تفرغوا للعلم، ولم يتزوجوا، ولكن الثابت والصحيح أن الزواج سنة وعمار للأرض،
وعليه فان الامام الشافعي تزوج وكان له الأولاد والبنات.
زوجة الإمام الشافعي
تزوج الامام الشافعي من حمدة بنت نافع بن عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان عام 179 هجريا.
بنات الإمام الشافعي وذريته
ما بين أبنائه من زوجته وابنه من جاريته دنانير، المعروف أن الامام الشافعي أنجب عثمان وزينب وفاطمة، ومحمد أبو الحسن.
أهم كتب الإمام الشافعي
ترك الامام الشافعي إرثا فكريا في الدين واصول الفقه وضوابطه، وكذلك اللغة والشريعة يجب أن يكون منهاج لكل مسلم أراد أن يتبحر في العلم، وعليه تأتي على رأس مؤلفاته:
1. الرسالة
الذي وضع فيه خلاصة ما وصف إليه من علوم الفقه، وظل لأكثر من 80 مرة، يُعيد الامام الشافعي تنقيح كتابه "الرسالة" ويزيد عليه أو ينقص منه ويراجعه حتى اطمئن لإرساله إلى عبد الرحمن بن مهدي عام 195 هجريا، وأعاد تصنيفه عندما وصل إلى مصر ليضم الأحوال الجديدة التي طالعها.
2. أحكام القرآن
وهو الكتاب الذي تم تجميعه بعد وفاته، ويضم شرحه للأيات القرآنية وفق مذهبه وعلمه.
3. الأم
آخر الكتب التي صدرت عن الامام الشافعي في حياته، وكان عبارة عن خلاصة أفكاره ويضم توصيته ووصيته،
وأجمع فيها المسائل الفقهية المختلف عليها وأبدى رأيه وحجته فيها.
4. مسند الإمام الشافعي
يضم هذا الكتاب الأحاديث النبوية التي تأكد المام الشافعي نفسه من إسنادها وصحتها.
5. اختلاف الحديث
وهو الكتاب الذي أراد به الامام الشافعي أن يزيل اللبس والخلاف عن بعض الأحاديث، سواء في طريقة فهمها أو تعارضها مع الأحداث،
فيوضح حقيقتها ويزيل عنها التعارض.
6. جماع العلم
جمع فيه سنة النبي التي يجب اتباعها وفرائض وأركان الدين الإسلامي، ووجوب اتباع الأحاديث النبوية وعدم إنكارها.
وله مؤلفات عدة، منها: اختلاف مالك والشافعي، وصفة الأمر والنهي، والرد على محمد بن الحسن.
أشهر تلاميذ الإمام الشافعي
تتلمذ الامام الشافعي على يد كثيرين من العلماء، أهمهم الإمام مالك بن أنس ومسلم بن خالد الزنجي ومحمد بن الحسن الشيباني،
كما كان أستاذ لكثيرين، منهم:
- الإمام أحمد بن حنبل.
- الربيع بن سليمان بن داوود الجيزي.
- الحسين بن علي بن يزيد البغدادي.
- الحارث بن سريج البغدادي.
- سليمان بن داوود بن علي الهاشمي القرشي البغدادي.
- عبد الله بن الزبير الاسدي القرشي
أقوال الإمام الشافعي في العلم
لا يوجد منهج في الشريعة ودراسة علوم الدين لم يترك فيه الامام الشافعي أثرا أو ساهم في تجديده،
فهو من وضع ضوابط وأصول علم الفقه وبين الناسخ والمنسوخ، ولها في الشعر دواوين تم جمعها في كتاب، وكانت له القدرة على المناظرة والحجة، بسبب ذكائه وفطنته واتصافه بسرعة البديهة.
ومن أقواله في العلم:
"اصبر على مُر الجفا من معلم
فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعةتجرع ذل الجهل طوال حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابهفكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى- والله – بالعلم والتقىإذا لم يكونا لا اعتبار لذاته"
وقوله:
"من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبل قدره،
ومن نظر في اللغة رَقَّ طبعُه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه"
أقوال الشافعي في الأخلاق
ومن أشهر أقوال الامام الشافعي عن الأخلاق:
"إذا شئت ان تحيا سليما من الاذى
حظك موفوورٌ وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئفكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن ابدت إليك معايبافصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدىوفارق لكن بالتي هي أحسن"
وهو القائل:
"إذا حار أمرك في معنيين
ولم تدر حيث الخطأ والصواب
فخالف هواك فإن الهوىيقود النفوس إلى ما يُعاب"
أقوال الإمام الشافعي عن الحياة
وفي شعره وأحاديثه قال الإمام الشافعي عن الحياة ما يمكن أن نعدّه بوصلة لتيسير أمورنا، منها:
"دع الأيام تفعل ما تشاء * وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي * فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا * وشيمتك السماحة والوفاء"
كما قال:
"ولا حزن يدوم ولا سرور * ولا بؤس عليك ولا رخاء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع * فأنت ومالك الدنيا سواء"
أقوال الشافعي في العلاقات
ترك الامام الشافعي في كتبه ومحادثاته أقوالا عن العلاقات والصداقة يمكنه أن تصبح نهجا، فهو من قال في الصداقة:
"لا سرور يعد صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم، والغريب من فقد إلفه، لا من فقد منزله"
وقال:
"أحب من الإخوان كل مواتي * وكل غضيض الطرف من عثراتي
يوافقني في كل أمر أريده * ويحفظني حيا وبعد مماتي"
وقال أيضا:
"لا خير في خلً يخون خليله * ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشا قد تقادم عهده * ويظهر سرا كان بالامس قد خفا
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن لها * صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد مُنصفا"
ضريح الامام الشافعي في مصر
تم دفن الإمام الشافعي بمصر بعد وفاته، وعام 1211 ميلاديا قام السلسكان الكامل الأيوبي ببناء ضريح فوق مدفنه،
وزين قبة الضريح الحديدية بسفينة في إشارة إلى أنها تُبحر في علم الامام الشافعي، ويقع الضريح في منطقة مصر القديمة بشارع الإمام الشافعي بالخليفة.
مسجد الإمام الشافعي أين يقع؟
يقع مسجد الإمام الشافعي قرب ضريحه بالخليفة في مصر القديمة، وعملت الحكومة المصرية مؤخرا على تطوير المسجد والضريح بتكلفة وصلت إلى 22 مليون جنيه.