يُعرَّف الفضاء بأنه المجال الذي فوق 100 كيلومتر من سطح الأرض، حيث تنعدم الجاذبية الأرضية تقريبًا.
وقد بدأ الإنسان يستكشف الفضاء في ستينيات القرن الماضي بمنافسة محمومة لاستعراض القوة العلمية والتطور التقني بين ما كان يُعرَف بالاتحاد السوفييتي سابقًا، والولايات المتحدة الأمريكية.
وأطلق الروس أول قمر صناعي "سبوتنيك" في عام 1957، في حين أنزلت أمريكا أول إنسان "نيل أرمسترونج" على سطح القمر في عام 1969.
وتوالت لاحقًا المهام الفضائية في أثناء الحرب الباردة بإطلاق أقمار صناعية أغلبها عسكرية، إضافة إلى مهام علمية واستكشافية، ثم دخلت دول أخرى مجال الفضاء، نظرًا إلى أهميته الكبيرة ومزاياه الاستراتيجية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة، برز نوع من التعاون الفضائي الظاهري بين الدول الفضائية "ما عدا الصين التي استُبعِدت لأهداف سياسية"، وكانت نتيجته بناء محطة الفضاء الدولية التي تشترك فيها 15 دولة، منها روسيا.
وفي تلك الأثناء كان هناك خط مُوازٍ تَبني فيه كل دولة قدرات مستقلة خاصة للاستخدامات العسكرية الفضائية، ثم تَطوَّر هذا النهج إلى تكوين تكتُّلات وتجمُّعات فضائية ذات مصالح استراتيجية مشتركة مدعومة بالحاجة إلى تقنيات متطورة، وتحمُّل التكاليف الباهظة والمخاطر العالية للأنشطة الفضائية عامةً، إضافةً إلى اعتبارات سياسية ومصالح إقليمية أيضًا.
وعلى سبيل المثال، أُسِّست وكالة الفضاء الأوروبية التي تضم 22 دولة، ومنظمة التعاون الفضائي لدول آسيا والمحيط الهادئ "أبسكو" المكوَّنة من تسع دول، بمبادرة ورعاية من الصين، وأسّست اليابان رابطة أخرى موازية تضم عددًا من الدول الآسيوية، كما أُسِّست وكالة الفضاء الأفريقية المكوَّنة من 55 دولة، ووكالة الفضاء الأمريكية اللاتينية والبحر الكاريبي، التي تشمل سبع دول، وصولًا إلى مبادرة دولة الإمارات العربية المتحدة بتأسيس المجموعة العربية للتعاون الفضائي، التي تضم 14 دولة عربية حتى الآن، بهدف تسريع وتيرة الأنشطة الفضائية العربية، والحفاظ على مصالحها الفضائية.
ومع أن التكتُّلات والتجمُّعات الفضائية تغلب عليها المصالح الإقليمية ذات البُعد السياسي، فإنه في الواقع يوجد ضمن كل تجمع أو تحالف سباق بين الدول الأعضاء لأسباب عدَّة تعود في أغلبها إلى المزايا الاستراتيجية والاقتصادية التي يوفرها الفضاء لكل منها، ولا سيَّما أن قيمة اقتصاد الفضاء العالمي وصلت إلى 424 مليار دولار، ويُتوقَّع أن تتجاوز تريليون دولار في السنوات العشر المقبلة.
وقد شهد العقد الماضي تغييرًا جوهريًّا في الأنشطة الفضائية، فأُشرِك فيها القطاع الخاص، وأصبح له دور محوري في تقدم التقنيات الفضائية وتطورها، وتخفيض تكاليفها نسبيًّا، وفي الوقت نفسه ظهر مجددًا التنافس الفضائي -ولا سيَّما العسكري- مدعومًا بخلافات سياسية متشعبة، إذ اتجهت دول فضائية متقدمة إلى بناء قدرات فضائية عسكرية خاصة بها، وتأسيس وحدات عسكرية لإدارة تلك القدرات وتشغيلها وحمايتها، واستعرضت بعض تلك الدول قدراتها الفضائية، ومنها تدمير أقمار صناعية في الفضاء بهدف الردع، ما ولَّد نهجًا جديدًا عُرِف بـ"عسكرة الفضاء".
وفي هذا الإطار تُطوّر دول، منها كوريا الشمالية وإيران وغيرهما، قدرات صاروخية عسكرية تحت مظلة البرامج الفضائية.
وخلال الأزمة الروسية-الأوكرانية في عام 2014، والحرب التي اندلعت بين البلدين أخيرًا، برز جليًّا استخدام الفضاء سلاحًا وساحةً للتنافس، ولا سيَّما بين روسيا والدول الغربية، إذ استخدم كِلا الطرفين قدرات فضائية لدعم العمليات العسكرية في أوكرانيا.
وعندما منعت العقوبات الغربية الشركات الفضائية من التعامل مع روسيا، هدَّدت الأخيرة بعدم التعاون في تشغيل محطة الفضاء الدولية وتصدير بعض التقنيات الفضائية إلى الغرب.
وفي الأثناء أصبحت الصين قوة فضائية كبيرة تملك اكتفاءً ذاتيًّا في التصنيع والإطلاق، وبنَت محطة فضائية خاصة بها على غرار محطة الفضاء الدولية.
ولا شكَّ في أن الفضاء أصبح ساحة للصراع والتنافس بين الدول، في ظلّ غياب مواثيق ومعاهدات جماعية ملزمة، ما يؤثر سلبًا في مفهوم الاستخدام السلمي للفضاء واستدامة الأنشطة الفضائية، بسبب عسكرة الفضاء، والحطام الفضائي الذي قد تؤثر مخاطره في الجميع، في حين أن الاستقطاب والتنافس في هذا القطاع يؤثران سلبًا في جهود الدول النامية، وخاصة تلك التي لديها طموحات فضائية.
وبرغم أن مصلحة الجميع تقتضي إبقاء الفضاء بعيدًا عن الخلافات السياسية، وتسخيره للتنمية والسلم العالميَّيْن، فإن من المُتوقَّع استمرار عسكرة الفضاء وتسييسه في المستقبل المنظور، بسبب الخلافات العميقة بين روسيا والغرب، وتنامي قوة الصين ونفوذها.
ونظرًا إلى حساسية القطاع الفضائي وتحدياته المتعددة قد يكون من الأفضل لكثير من الدول، وخاصة الدول الحديثة العهد به، اتباع نهج معتدل على غرار نهج دولة الإمارات التي تتبع في مجال الفضاء سياسة حكيمة مستمدَّة من نهجها المعتدل، إذ تتعاون مع أغلب الدول الفضائية بحسب الحاجة، ولديها حضور فضائي كبير إقليميًّا ودوليًّا، ما يسهم في استدامة قطاعها الوطني، وتطويره إلى آفاق أرحب.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة