كنت صبيا تجاوز الثالثة عشرة بقليل حين وقفت للمرة الأولى بين دائرة المنشدين في مسجد العشيرة المحمدية أردد بحب لا يدرك عقلي كنهه.
نسيم الوصل هبّ على النّدامى
فأسكرهم وما شربوا المُداما
ومالت منهمُ الأعناق شوقا
لأن قلوبهم مُلئت غراما
كانت نفسي تحدثني عن تلك الحالة التي يسكر فيها المرء دون خمر، فيتمايل شوقا لأن قلبه مليء بالغرام، وكان ترديد المفردات بما تحمله من جمال يأخذني برفق نحو المعنى وما يخبئه من جلال، وبقيت على تلك الحالة زمنا -لا أعرف أطويل هو أم قصير- أنعم بلطائف المفردات والمعاني.
حتى بلغت "ليلى"، التي سلبت مني العقلا، فطفتُ بالأعتاب ولزمت الباب، فسألني البواب هل ترد وصلا؟
وقال لي: يا صاح... مهرها الأرواح... كم محب راح في هوى ليلى...
قلوب العاشقين
غير أن كلمات أبي مغيث الحسين بن منصور الحلاج
قلوب العاشقين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرونا
أحدثت جدلا مثيرا في نفسي –لم أكن أعرف في تلك الأثناء مَن صاحب القصيدة-
فإذا كان من الممكن أن يدخل "الغرام" المرء في "حالة السكر" دون خمر، فكيف يمكن للعشق أن يمنح المرء قدرة على أن يرى بقلبه ما لا يراه "الناظرونا"؟
كان الحديث القدسي الذي رواه البخاري يؤكد المعنى الوارد في كلمات الحلاج "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني أعطيته وإن استعاذني لأعيذنه".
حقا إنه الحب الذي يمنح قلوب العاشقين عيونا ترى ما لا يراه "الناظرونا".
الملائكة تطوف بنا..
كنا في قاعة المنارة ننتظر بدء الاحتفال بالملائكة من ذوي الهمم في النسخة الثالثة من احتفالية "قادرون باختلاف"، ونتابع جولة الرئيس السيسي داخل صالات العرض الخارجية وحديثه مع المشاركات والمشاركين من ذوي الهمم.
صمت الجميع كأن على رؤوسهم الطير وهم يتابعون الجولة التي كان يحفها الحب في أسمى معانيه.
وحين انتهت الجولة وبدأت الاحتفالية توالت المشاهد المؤثرة التي أخذت كل من في القاعة نحو آفاق رحبة من الحب.
حب هؤلاء الذين منحونا شرف حضور احتفالية تخصهم، وحب أهاليهم الذي يتحملون في سبيل الحفاظ عليهم ورعايتهم ما تنوء بحمله الجبال، وحب من اهتم بهم ووضعهم في صدارة المشهد، وألقى الضوء على إنجازاتهم وقدراتهم الخاصة، حب من جَبَر خواطرهم.
ومع كل فقرة من فقرات الاحتفال تتجلى صورة من صور هذا الحب فأبكي دون أن أدري وتحضرني كلمات الحلاج:
عباد أخلصوا في السير حتى
دنوا منه وصاروا واصلينا..
تتنحى من رأسي كل الأفكار إلا ما تحمله تلك المشاهد من جمال يمنح الروح بهجة وجلالا يهب العقل سكينة:
شواهدها عليها ناطقات
تبطل كل دعوى المدعينا..
يبكي الرئيس السيسي متأثرا بكلماتهم ويظهر الصدق في تفاصيل المشهد الذي لا يراه أولئك الذين على قلوبهم أقفال صدئة لم يعرف الحب لها طريقا.
يتحدث الرئيس كأب، يداعبهم ويرد على أسئلتهم المرحة.
ويعدهم بأن يكون دائما معهم، فهم كما قال: الكنز.. وهم الملائكة التي تحرس بيوتنا.
وحين تأتي الأصوات من مؤخرة القاعة تطالب الرئيس بأن يدخل المشاركون في الصالات الخارجية لقاعة الاحتفال ليشاركوهم فرحتهم. يوجه بدخولهم، وحين تناديه إحدى الأمهات مطالبة بأن يسمح لهم بالتصوير معه، يلبي ويقول في حنو لا تخطئه القلوب قبل العيون: أنا معكم ويسعدني أن أتصور مع الجميع ويفعل، وتنطق الصور بالسعادة الكامنة في نفوس الجميع وأولهم الرئيس.
كان يوما ليس كغيره من الأيام، صحيح أن احتفالات أخرى أهمها الاحتفال بأسر الشهداء كانت تشهد الكثير من تلك المواقف المؤثرة لكن هذا اليوم كان مختلفا جدا عن كل تلك الأيام، ولم لا وهو يوم في حضرة الملائكة من البشر..
لا يهمني ما يردده البعض من انتقادات، ولا ألتفت لما يروجه البعض الآخر من سخافات، فكل هؤلاء لم يكونوا شهودا على هذا الحب.
جبر الخواطر
أقول وأحسب أنني على حق: إن من يجبر خواطر هؤلاء ويشملهم بتلك الرعاية بكل هذا الصدق هو واحد من أولئك الذين لقلوبهم عيون ترى ما لا يراه الناظرون، هو واحد ممن أحبهم الله.
وهذا حديث لا علاقة له بالسياسة وأحوالها ولا يمت بصلة للمؤيدين وآرائهم ولا للمعارضين ومواقفهم.
فهذا مشهد عميق الدلالة عظيم الأثر سيبقى خالدا ولو كره الكارهون.
نقلا عن سكاي نيوز عربية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة