من بين أهم أسباب النجاح على الصعيد الشخصي والمؤسساتي، وبالتالي القومي، إدراك البراعة في عملية اتخاذ القرارات.
فالبراعة كما يُقال ليست شيئًا يحدث فجأة في لحظة زمنية بعينها وكأنها برق خاطف، ولكنّها عبارة عن تجمُّع من القوى التي تتحرك باطراد طوال الوقت نحو هدف واضح.
ولعل من المعروف أن حركة الأحداث في العقدَيْن الأخيرَيْن من القرن الحادي والعشرين باتت تتّسم بسرعة غير طبيعية، لا سيّما في ظل تطور الأدوات والآليات، التي يتواصل من خلالها البشر، وعلى غير المصدّق أن ينظر إلى الطفرة القائمة والقادمة التي أُطلقَ عليها "الميتافيرس" وما يمكن أن تصنعه على الصعيد العالمي من ثورة غير مسبوقة في تسهيل حياة البشر من جهة، وتعقيدها من جهة أخرى.
أما التسهيل والاستفادة، فسوف يحصدها أولئك الجاهزون والنصر حليفهم دومًا، فيما المتباطئون لن يحصدوا سوى المقاعد الأخيرة.
باختصار غير مُخلّ، يمكن النظر إلى التشريعات التي اعتمدها صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، ضربًا من ضروب سباق الزمن نحو مستقبل أكثر إشراقًا وأكثر عملياتية، بل وأكثر نجاحًا في عالم متسارع باتت البراجماتية سمته الرئيسية.
يعنّ لنا أن نتساءل بادئ ذي بدء: ما الهدف الرئيس من التشريعات في الأصل؟
مؤكد تعزيز حياة الإنسان، من خلال تقنين العلاقات وتعرُّف المسؤوليات ووضع الضوابط بما يسمح للبشر بالعيش في مجتمع تسوده ملامح ومعالم إنسانية، مجتمع تسوده الفضيلة المرتكزة على وضوح الرؤية القانونية، وفي مظلّة من العدالة التي تعمّ الجميع.
عرفت الإمارات طوال تاريخها بنجاحاتها في سياق التجربة التنموية، وأضحت مثالاً في دائرتها الإقليمية، وها هي اليوم، وهي تحتفل بذكرى خمسين عامًا على إعلان اتّحادها، تتطلّع إلى أفق ما بعد إنسانويّ، أفق يسعى إلى تعزيز البيئة الاقتصادية والبنية الاستثمارية والتجارية للدولة، بالإضافة إلى دعم أمن واستقرار المجتمع، وحفظ حقوق الأفراد والمؤسَّسات، على حدٍّ سواء، في حزمة متكاملة من القوانين وتعديلاتها تواكب نهضة وتطلُّعات الإمارات.
أكثر من مرّة أشرنا إلى أن الذين يحلمون هم الذين يعيشون المستقبل، وأنّ الذين يترحّمون على الماضي صباح مساء كلّ يوم هم أولئك الذين استقرّوا في الماضي من غير مقدرة حقيقيّة على مغادرته.
ما يميّز الإمارات هو قدرتها الحقيقية على بناء المستقبل، والتطلّع إلى اللحاق بالنجوم، وقد فعلتْ، فلم تُبق أهدافها محدودة بالنشاطات الأرضية، بل ها هي بعد أن بلغ مسبارها "الأمل" كوكب المريخ تخطّط لبلوغ كوكب الزهرة، وتسعى لأن تكون من أولى الدول التي تقوم ببناء مستعمرات بشرية على سطح الكوكب الأحمر في الذكرى المائة لقيام الاتحاد الإماراتي.
يصعب على المرء في هذه السطور المعدودة أن يحيط علمًا وفهمًا وتحليلاً بأبعاد التشريعات الأربعين، التي تهدف الإمارات من ورائها إلى إجراء تغييرات قانونية نوعية، بما يتناسب مع رؤية قيادتها وطموحات مجتمعها، ويلبّي في الوقت نفسه تطلّعات قطاعات محورية ومتنوعة ويعزّز مكانة الدولة وتنافسيتها وموقعها على خارطة المستقبل.
غير أن هذا لا يمنع من القول إنّ نظرة سريعة على تلك التشريعات تكشف لنا اهتمامات الإمارات بالبشر قبل الحجر، وهذا هو سر تفوق دولة الإمارات، إذ إنها تضع البشر أبدًا ودومًا في خطواتها وخرائط طرقها قبل الحجر، بل إنها تسخّر الحجر لأجل خدمة البشر، وهذه فلسفة عظيمة في بناء الدول القومية بمفهومها الحديث، حيث تبدو روح القوانين التي تحدَّثَ عنها المفكّر الفرنسيّ والفيلسوف الكبير مونتسكيو، هي السائدة، إذ ليس المهمّ هو النصوص الجامدة من غير روح أو حياة، بل التعاطي الخلّاق مع التشريعات بحيث تعيد صياغة الواقع في ضوء المعطيات الآنية.
قبل التشريعات الأربعين الأخيرة، أدهشتْ الإمارات العالم حين أصدر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، قانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين في الإمارات، الأمر الذي اعتُبرَ خطوة نهضوية تنويرية تقدُّمية، لا يُقدم عليها إلا الراسخون في العلم، لا سيّما أنّ الإمارات أضحت بالفعل رواق الأمم الحديثة من حيث القاصدين لها من الأمم والشعوب كافة، شرقًا وغربًا، ومن هنا جاءت الحاجة الماسّة إلى وجود تشريعات شخصية تجعل حياة المقيمين طيبة هانئة، فلا قلق على مستقبل، ما يعني إبداعًا يوميًّا في مجالات الحياة كافة، وقيمة مضافة لمعنى ومبنى الإمارات أخلاقيًّا وأدبيًّا، اجتماعيًّا وماديًّا، وعلى أصعدة الحياة كلها.
يعنّ للمرء أن يتساءل: كيف جرتْ تلك التعديلات؟ ومَن فكَّرَ فيها وبلورها حتّى تصل إلى هذا الطرح الأخير المفيد والإيجابي؟
يُدهَش القارئ حين يدرك أنّ عملاً جبّارًا وَقَفَ وراء تلك التشريعات، أهمّ ملامحه هو القدرة على استشراف آفاق المستقبل، فما وصل إلى أيدينا من تشريعات هو نتاج تنسيق اتحادي محليّ، ومن خلال فرَق عمل ضَمَّتْ 540 متخصّصًا وخبيرًا من 50 جهة اتّحاديّة ومحلّيّة، وعلى مدار الخمسة أشهر الماضية.
لا تهمل الإمارات القطاع الخاصّ، ذلك الذي بات أحد أركان التقدّم في سماوات العالم الليبرالي المتقدّم، ولهذا تشاور أصحاب القرار وصُنّاع التغيير مع أكثر من 100 شركة في القطاع الخاصّ، وذلك بهدف مواكبة أفضل الممارسات في العالم، وآخر المستجدّات في مجال التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، وصولاً إلى تسهيل الإجراءات وتسريع آليّة اتّخاذ القرار، وتمكين الأطراف المعنيّة في القانون.
تبدو عبارة "روح الاتحاد" سارية في الأجواء الإماراتية من يوم الإعلان عن مولد الدولة بشكلها الحديث، وحتّى الساعة، وهذا ما يُكسب الإمارات قوّة ومَنَعة، ففي زمن التفكيك والانفصال، كما نراه في تجارب سياسية عدة حول العالم، تمضي الإمارات نحو تعزيز التشريعات التي تجعل منها كيانًا روحيًّا واجتماعيًّا واحدًا، إنها روح القلب الواحد الكونية، التي تعمُّ الإماراتيّين كافة، والتي لا تتوقّف عن التطوير والإضافة كلّ يوم، وهذا أحد أهمّ أسرار تلك الدولة التقدّميّة.
هل في هذه التعديلات نوعٌ من أنواع البراجماتية المستنيرة التي تنعكس بالفائدة جزيلة النفع على كلّ من يسكن دولة الإمارات؟
أوّلا تتحتَّم الإشارة إلى أنّ أحد أهمّ أسباب نجاح التجربة الإماراتية هي تلك النظرة الإنسانية والأخلاقية للمقيمين على أراضيها، والتي لا تفرّق أبدًا بين البشر، لا سيّما في أوقات النوازل الإنسانية.
في هذا الإطار، يمكن للمرء أن ينسى أيّ موقف عبر العقود الفائتة، لكن بحال من الأحوال لا يمكن أن ينسى الناظر حديث صاحب السموّ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حين اشتدّتْ أزمة فيروس كورونا، وجُملته الخالدة "لا تشلون هم".. ساعتها أدرك العالم وعن حقّ أنّ هناك روحًا إنسانية تشمل هذا البلد الآمن المطمئن، وأنّ كافّة ما يجري على سطحه من تغيّرات وتبدّلات إنّما هدفها الرئيس والأساسي هو خدمة الإنسان والإنسانية في الحال والاستقبال.
التغيّرات التشريعية الأخيرة يمكن إضافتها إلى حالة الزخم والنجاحات التي تعيشها الإمارات في خمسينيّتها الحاضرة، وهي دلالة على مسيرة لا تنقطع من النجاحات أمس واليوم وإلى ما شاء الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة