في ذكراها الثانية.. رضوى عاشور "الناقدة"
بالتزامن مع الذكرى الثانية لرحيل الناقدة رضوى عاشور، تستعد دار الشروق المصرية لإصدار طبعة جديدة، كاملة، منقحة، من أعمالها النقدية الأبرز
عامان على رحيل الأستاذة والناقدة والمبدعة المصرية رضوى عاشور (26 مايو 1946 - 30 نوفمبر 2014)، وما زال حضورها عارما في نفوس محبيها وطلابها وجمهور قرائها في مصر والعالم العربي. تنوعت كتابات رضوى عاشور بين الدراسات النقدية والإبداع الأدبي، وراوحت بين التدريس الجامعي والعمل التطوعي العام، كانت من أبرز وجوه حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وعُرف عنها جرأتها وشجاعتها في الدفاع عن الحريات والرأي.
ومثلت في كل ذلك "نموذجا ناصعا" للأستاذة الجامعية القديرة، التي تحنو على طلابها وطالباتها بغير تدليل ولا إسراف، تحرص على غرس القيم والتقاليد الجامعية العريقة في نفوس هؤلاء، بدءا من احترام قيمة الحرية واستقلال الجامعة والبحث العلمي، مرورا بقيمة التفكير النقدي والإعلاء من فعل المساءلة والنقد والمراجعة وعدم التسليم بأي فرضيات سابقة إلا تحت مجهر الفحص والدرس العلمي السليم، وليس انتهاء بقيمة الأستاذ الجامعي الذي لا يغادر قاعة الدرس إلا مع خروج النفس الأخير، يحتضن طلابه ويرشدهم ويأخذ بأيديهم، وما كانت رضوى عاشور طيلة حياتها إلا تجسيدا وتحقيقا يسير على قدمين لهذا النموذج النادر (هل نقول المنقرض؟!)
الأستاذة "الناقدة"
لم ينفصل مشروع رضوى عاشور النقدي، بوصفها ناقدة متميزة، عن مشروعها الإبداعي، فالتجاوب متصل بين خطاب "مقاومة التبعية" الذي تنبني عليه كتاباتها النقدية (سواء في الطريق إلى الخيمة الأخرى-1977، والتابع ينهض: الرواية في غرب إفريقيا-1980، وصيادو الذاكرة: مقالات في النقد الأدبي-2001) والخطاب نفسه الذي يتجسد إبداعيا في رواياتها المتتابعة، وبخاصة: "سراج"-1992، و"ثلاثية غرناطة" (1994-1995)، و"أطياف"-1999.
من دراساتها النقدية "البحث عن نظرية للأدب.. دراسات للكتابات النقدية الأفرو أمريكية"، وهي رسالتها للدكتوراه، و"الطريق إلى الخيمة الأخرى ـ دراسة في أعمال غسان كنفاني" 1977، و"جبران وبليك" 1978، وهي في الأصل الرسالة التي قدمتها لجامعة القاهرة لنيل درجة الماجستير. و"التابع ينهض ـ الرواية في غرب إفريقيا" 1980، و"في النقد التطبيقي ـ صيادو الذاكرة" 2001، بالإضافة إلى عدد كبير من المقالات المتفرقة التي كتبتها ونشرت في دوريات مختلفة، عربية وإنجليزية.
في 2009 خرجت رضوى عاشور على طلابها ببحثها القيم "الشدياق والحداثة الممكنة" الذي يقع في 148 صفحة من القطع المتوسط. فى هذا الكتاب تتناول رضوى عاشور بالبحث والدراسة الرواية الأولى فى الأدب العربى الحديث "الساق على الساق فيما هو الفارياق" 1855 للرائد الأديب واللغوي والصحفي والمترجم أحمد فارس الشدياق 1805 ـ 1887 يطرح الكتاب السؤال: "لماذا أُسقط إنجاز الشدياق وقد أنتج النص الأدبي الأغنى والأقوى في الأدب العربي في القرن التاسع عشر؟".. ثم يجتهد في الإجابة عبر قراءة نقدية مستفيضة تستكشف النص وعلاقته بزمانه.
ويبدو أن رضوى عاشور قد قررت أن تنحو نحوا مغايرا في دراستها للإشكالية الأبرز في تاريخ الرواية العربية الحديث: (نشأة الرواية العربية)، أو (فجر الرواية العربية)، ولم تنطلق مما اعتبره البعض "مسلمات" أو "حقائق لا يعاد النظر فيها"، ومنها مثلا الانصياع للمقولة التي أرساها المرحوم يحيى حقي في كتابه "فجر القصة المصرية"، من أول رواية عربية بالمعنى الفني هي رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، وهي المقولة التي تابعه فيها كثيرون، من مؤرخي الأدب العربي الحديث.
ريادات نقدية.. كتب ودراسات
وبالتزامن مع الذكرى الثانية لغياب "رضوى" تستعد دار الشروق المصرية لإصدار طبعة جديدة، كاملة، منقحة، من أعمالها النقدية الأبرز؛ تضم الكتب التالية: "الطريق إلى الخيمة الأخرى ـ دراسة في أعمال غسان كنفاني، و"التابع ينهض ـ الرواية في غرب إفريقيا"، و"في النقد التطبيقي ـ صيادو الذاكرة".
ربما كان كتاب رضوى عاشور "الطريق إلى الخيمة الأخرى" أول دراسة نقدية شاملة تخصص بكاملها لتحليل وإضاة أدب غسان كنفاني، ولعل أبرز ما لفت رضوى عاشور في دراستها لنصوص كنفاني "هو تداخل نصوصه مع شخصية كاتبها، الذي حقق بدوره تطابقا لافتا بين الكاتب والمناضل، وبين النص والحياة". ومن واقع دراستها التحليلية لنصوص كنفاني، توصلت عاشور إلى هيمنة موضوع "النفى والمنفى" على أدبه، وما يرتبط بهما من عناصر جوهرية، كاستدعاء ذكريات الطفولة، وسطوة الآباء في الحياة العربية، وخبرة الحياة اليومية والمدرسية، معتبرة رواية كنفاني القصيرة "رجال في الشمس" (1963) أول رواية فلسطينية بالمعنى الفني.
في "التابع ينهض.. الرواية في غرب إفريقيا"، بدوره، تقدم رضوى عاشور دراسة فريدة و"جديدة"؛ فالكتاب ربما كان الأول من نوعه الذي يلقي بأضواء نقدية على الرواية الإفريقية من منظور نقد ما بعد الاستعمار أو نقد "ما بعد الكولونيالية"، أحد أبرز تيارات نقد ما بعد الحداثة.
تقدم رضوى عاشور في "التابع ينهض" بحثا في موضوع غير مطروق في النقد العربي إلا في أضيق الحدود، فحتى زمن إنجازها لهذه الدراسة لم تكن هناك أية دراسات تتعرض للرواية الإفريقية عدا دراسات معدودة تتناول هذه الرواية أو تلك بالتلخيص والتحليل، وفي تفسير اختيارها للرواية الإفريقية للبحث تحت مجهر النقد، تقول عاشور إن فالقضايا التي تطرحها دراسة من هذا النوع ليست بعيدة عن الشواغل اليومية للقارئ العربي والمشاكل التي يواجهها الكُتاب الإفريقيون، سواء كانت مشاكل سياسية ناجمة عن الواقع الاستعماري ووليدة مرحلة التحرر الوطني أو مشاكل إبداعية متصلة بموقف الكاتب من تراثه الثقافي والتراث الأدبي الأوروبي الذي أنتج الشكل الروائي، مشاكل تجد نظيرا لها لدى الكُتاب العرب.
أما كتابها "في النقد التطبيقي ـ صيادو الذاكرة"، فيضم عددا من الدراسات النقدية "التطبيقية" الرصينة، التي نشرتها على فترات متباعدة، لكنها في النهاية تحمل الطابع المنهجي نفسه، وتتكامل فيما بينها رغم تباعد موضوعاتها ونصوصها نظريا، تقول رضوى عاشور في مقدمة الكتاب: "ما الذي يدفعني الآن لجمع هذه المقالات في كتاب؟ لعله الانتباه إلى أن عدم نشر أي كتاب نقدي لي لأكثر من 20 عامًا حصر ممارستي النقدية في مقالات متفرقة، مكتوبة بالعربية غالبًا وبالإنجليزية أحيانًا، منشورة في دوريات داخل مصر وخارجها مما يستحيل معه على القارئ متابعة الخط النقدي الذي أنتهجه. وفي ظني أن هذه النصوص على "عشوائية" ظروف إنتاجها أبعد ما تكون عن العشوائية فهي مترابطة في أسلوبها المنهجي، ومتسقة متكاملة في تعبيرها عن شواغل كاتبتها، أو هكذا أعتقد".
لكن من أهم ما تقدمه دراسات ومقالات "صيادو الذاكرة" هو هذا الإسهام التطبيقي الذي يجيب بشكل عملي على سؤال وظيفة النقد، فالدكتورة رضوى عاشور دائما ما كانت تعترض على "نقل ينزلق إلى رطان مستغلق على القارئ، وعلى نقل قائم على اقتلاع نظرية من سياقها التاريخي والفكري، وعلى نقل يركض وراء الصيحة الجديدة فالصيحة الأجدّ مغفلًا ما بين مدرسة وأخرى من تناقضات في المنطلقات، وما يعنيه الانتقال من تغيير في الموقع الفكري والموقف السياسي". وكانت ترى أن جزءا لا يستهان به من النتاج النقدي في الثقافة العربية عبارة عن نقد "متعثر"، منشغل بذاته وليس بوظيفته، فترى فيه الفجوة واضحة بين عرض المفاهيم النظرية والقدرة على تمثل هذه المفاهيم وتوظيفها بسلاسة في إضاءة النصوص.