صُنعُ الركود هو أحد الحلول المُجرّبة للتضخم. المعنى من ذلك هو أنه كلما قلّ الطلب، تراجعت الأسعار.
هذه هي إحدى الوصفات السحرية للمصارف المركزية، فهي ترفع الفوائد لكي تخفض الطلب. وهي وصفة يمكن الاستفادة منها لمكافحة الفقر والجوع.
الاقتصاديون يقولون إن "التضخم هو ضريبة على الفقراء"، لأنهم هم أول من يدفع ثمن ارتفاع الأسعار، وبخاصة في المواد الغذائية. ولكن يمكن للفقراء مكافحة هذه الضريبة من خلال قيامهم هم بصنع الركود!
الطريق ليس شاقا بالضرورة. لأن ما يمكن التضحية به قليل، بينما فوائده عالية. والأساس في ذلك هو السعي لتقليص الطلب.
لا يحتاج هذا الأمر إلى كثير من الفلسفة الاقتصادية. الفقراء أنفسهم يعرفون الكثير من جوانبها دون تعليم. دروسها جزء من حياتهم بالأساس.
كيف يمكن تقليص الطلب؟
أول الأجوبة، وأبسطها، هو وقف الهدر. نحن نهدر الكثير من الأشياء، وعلى رأسها الطعام. الكثير من الأسر، غنيّها وفقيرها، يهدر كميات هائلة من الطعام.. بعض التقديرات تذهب إلى أن ما نهدره من الطعام يُمكنه أن يُطعم كل الذين يبيتون على الطوى.. طبعا، المعادلة تختلف من بلد إلى آخر.
ولكن حيثما توجد طبقة وسطى، يوجد هدر. هذه قاعدة تكاد لا تُخطئ. وحيثما توجد طبقة وسطى، يوجد فقراء أيضا. الصورة هنا تكاد لا تحتاج إلى مزيد من الإيضاح.
وهناك تجارب تخوضها بعض الجمعيات الأهلية لجمع الطعام الزائد، وإعادة تقديمه على نحو لائق. هذه التجارب تستحق التشجيع. وتستحق الأزمات أن تسهم في تهذيب الثقافة العامة حول الطعام المهدر وحول من يتلقاه. من المهم النظر إلى الأمر من زاوية اقتصادية، بحيث يمكن بناء تصور ثقافي لا يقتصر على "الإحسان".
هذا "الإحسان" أمر عالي القيمة في مجتمعاتنا. ولكنه هو نفسه يستحق أن ننظر إليه، ليس كعمل من أعمال الخير فحسب، ولكن كعمل من أعمال الصلاح الاجتماعي والاقتصادي أيضا.
ثاني الأجوبة، هو الاستجابة للأزمة بما تُمليه. عادات التسوُّق القديمة يجب أن تتغير. بل ويمكن أن تتغير معها عادات الطعام نفسها. لا عيب على الإطلاق في أن تتعرف الأسر التي أضر بها ارتفاع الأسعار على بدائل، وأن تتعامل معها بمقدار أقل من مشاعر الاستياء. لأن العلاقة الطردية بين الأزمات والاستجابات لا تنطوي على مشاعر. فكلما ارتفعت الاستجابة، تراجعت حدة الأزمة.
القول "إن القناعة كنز لا يفنى"، مفيد. ولكنه لا يستوجب الاستسلام. العكس هو ما يجب أن يكون. الاستسلام للفقر منحى ضار وخطير. وهو شيء لا علاقة له بالقبول المؤقت لشروط الأزمة أو سبل الاستجابة لها من أجل التغلب عليها.
الفقر يستحق أن نقاتله، لا أن نستسلم له. وكذلك الحال مع التضخم. إنه أداة لصناعة الفقر. ومواجهته بكل السبل، بما فيها صنع الركود، أمر لا غنى عنه.
ثالث الأجوبة، التكافل الاجتماعي. وهو عمل يتعين ألا يتوقف على طابعه الديني. خذ مثلا: إعادة تدوير المواد القابلة للتدوير. لا يوجد هنا مغزى ديني مباشر. ولكن يوجد فيها هدف جليل آخر: تقليص الاستيراد.
التكافل نفسه يحسن أن يكون تكافلا منظما في أطر أوسع رحابا، لأجل الحد من إثارة مشاعر جانبية، من قبيل الخجل من الحرمان، أو الخشية من المظاهر.
وفي الواقع، فإن التكافل الاجتماعي الأكثر نجاحا هو ذلك الذي يعيد تدوير المظاهر لتصنع مظاهر تحفظ الكرامة. إيجاد منافذ حرة للمواد الغذائية والملابس بأسعار منخفضة، وللأدوات القابلة للاستعمال من جديد، بديل معقول. وهذا البديل لا يحتاج إلى أن يرفع يافطة تقول "هذا كرم من رجل كريم"، ولكنه يرفع يافطة تقول: "عروض مغرية"، "تنزيلات"، أو شيء محايد من هذا القبيل.. وذلك في "سوق موازية" هو في جملته من أعمال الخير الاقتصادي، لأنه يغطي جزءا مهما من الحاجة إلى الاستهلاك. وبالتالي: الحد من الواردات، إصلاح الميزان التجاري، رفع قيمة العملة الوطنية، زيادة الاحتياطات النقدية... إلخ.
العديد من دول العالم، على أي حال، توجد فيها "بنوك للمواد الغذائية" و"بنوك للملابس"، وغيرها التي يمكن شراؤها بأسعار شبه مجانية. كل ما توشك الشركات الكبرى أن تستغني عنه، يمكن أن يجد طريقه إلى تلك السوق.
رابع الأجوبة، هو التخزين. وهذا من العادات الاقتصادية القديمة للمجتمعات كافة. سوى أن عالم "السوبر ماركت" و"الوفرة الدائمة" قضت عليها دون مبرر، وانجررنا، شعوبا وأسرا وأفرادا، وراءها دون تفكير.
تقول بعض مؤسسات التموين الحكومية إن لديها ما يكفي لستة أشهر من السكر، أو سبعة أشهر من زيت الطعام... إلخ.
كان بعض أجدادنا يتصرفون داخل أسرهم كما تفعل هذه المؤسسات الحكومية اليوم. يشترون كل ما هو قابل للتخزين، عندما تكون أسعاره الدورية في أدنى مستوياتها، ليحتفظوا بها، حتى تأتي دورة الانخفاض التالية. كانوا يفعلون ما تفعله المصارف المركزية الآن دون أن يذهبوا إلى الجامعات..
بالوعي البسيط، كانوا يصنعون ركودا، ويعرفون أنه: كلما قلّ الطلب، تراجعت الأسعار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة