حرب عالمية اقتصادية.. لعبة توازنات ومصالح في معركة أوكرانيا
لن تمر الحرب الروسية في أوكرانيا مرور الكرام على الاقتصاد العالمي، فخلف ضجيج المدافع كواليس حرب اقتصادية عالمية دقت طبولها دون توقف.
فالأزمة الأوكرانية قد تعيد تشكيل القوى الاقتصادية عالميا، ويبدو هذا الاحتمال بوضوح مع تصريحات الحكومة الروسية حول ضغوطات تمارسها الدول الغربية على بكين.
والتي لم تأت للإشارة إلى وجود ضغوط فقط، بل قد تكون إشارة أن موسكو تعي تحركات الغرب لاستمالة الصين إلى صالحها.
حتى اليوم، تعتبر العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين الصين وروسيا في أفضل أحوالها، وتضاف لهم كذلك كوريا الشمالية، لتأسيس تحالف قوي في مواجهة الغرب، يكون قادرا على الاستقلال سياسيا واقتصاديا وتجاريا.
علاقات الصين مع الغرب أقوى من روسيا
بلغة الأرقام، فإن العلاقات الصينية الغربية أكبر بكثير من العلاقات مع روسيا، على الرغم من أن الأخيرة هي المورد الأكثر موثوقية إلى جانب دول الخليج العربي، لمصادر الطاقة بأنواعها، وخاصة النفط.
فالصين هي أكبر مستورد للنفط الخام في العالم بمتوسط يومي 10 ملايين برميل، وثاني أكبر مستهلك له بعد الولايات المتحدة بإجمالي 13.2 مليون برميل يوميا.
تجاريا، ارتفع حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين في العام 2021 بنسبة 35.2% مقارنة بالعام 2020، وبلغ 140.705 مليار دولار، وفقا لبيانات هيئة الجمارك الروسية.
وفق البيانات أيضا فإن الصادرات من روسيا إلى الصين زادت بنسبة 38.4% وبلغت 68.029 مليار دولار، بينما زادت الواردات إلى روسيا من الصين بنسبة 32.3% وبلغت 72.676 مليار دولار.
بينما قالت وكالة الإحصاء التابعة للاتحاد الأوروبي "يوروستات"، إنّ الصين أصبحت الشريك التجاري الأول للاتحاد في 2020، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 570 مليار يورو (630 مليار دولار)، مقارنة بنحو 516.3 مليار يورو في 2019.
في المقابل، تراجع حجم التبادل التجاري مع الولايات المتحدة في الفترة ذاتها إلى 508.8 مليارات يورو من 569.9 مليار يورو (568 مليار دولار) خلال الفترة ذاتها في 2019.
وتجاوزت قيمة واردات الاتحاد الأوروبي من الصين حاجز 460 مليار دولار أمريكي وفق بيانات يوروستات.
أما العلاقات الصينية الأمريكية، بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما خلال العام الماضي نحو 657.4 مليار دولار أمريكي، بواقع 506.4 مليارات دولار صادرات صينية، بينما الواردات بلغت 151 مليار دولار، والفائض التجاري لصالح الصين 355 مليار دولار.
وفي عام 2010، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 465.8 مليار دولار أمريكي ما يعني أن النمو بين 2010 و2021، بلغ 41.2% وهو نمو لم يتحقق بين الصين وروسيا.
على الوجه الآخر نجحت الصين بشكل كبير في ترسيخ موقعها كبلد مستقل، عن العالم ككل تقريبا، من خلال توافر أنظمة مالية وتجارية مستقلة غير قابلة للحجب من جانب الغرب.
وأمام هذا الاستقلال الصيني، فإنها لن تكون في منطقة رمادية مما يجري في شرق أوروبا، فروسيا بالنسبة لها الحليف الاستراتيجي، بينما الغرب لا يمكنه بسهولة التخلي عن التجارة مع الصين.
رسائل متتالية وغموض صيني
ومنذ بدء الأزمة الأوكرانية حتى اليوم، ما يزال الغموض عنوان موقف الصين الحقيقي بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، رغم التصريحات المتتالية من مسؤولين صينيين حول موقف البلاد.
فالخارجية الصينية تؤكد -عبر الناطقين باسمها- أن موقف الصين من القضية الأوكرانية ثابت، وأن الصين تقرر موقفها على أساس مزايا قضية أوكرانيا نفسها.
وفي ظل التحرك الغربي ضد روسيا وتزايد عزلتها على الساحة الدولية، ترسل الصين بإشارات واضحة حول استمرار علاقتها بموسكو، حيث برزت بكين لاعبا رئيسيا لديه القدرة على تخفيف الضرر الاقتصادي الناجم عن العقوبات الغربية على روسيا.
وخلال الأيام الماضية، أعلنت سلطات الجمارك الصينية رفع قيود استيراد القمح الروسي، في حين قال محللون إنها إشارة دعم تهدف الصين من خلالها إلى توضيح أن العقوبات غير فعالة.
رابح - رابح أم الكل خاسر؟
لعل الموقف الصيني من الحرب الأوكرانية سيجنبها الكثير من المخاطر والتحديات المستقبلية، فمسارات الحرب مفتوحة، وسيكون على بكين التعامل مستقبلاً مع "المنتصر الضعيف".
فما يهم بكين هو القدرة على التعامل مع كل الاحتمالات المستقبلية، والسعي لتحويل أي أزمة إلى فرصة، واستثمارها في تحقيق المشروع الصيني.
هذا المشروع الذي يعلن سياسة رابح – رابح، بينما الحروب عادة تكرس واقع خاسر- خاسر، فكل أطراف الصراع يكونون عادة مهزومين، والمستفيد من إفرازات الحروب وتبعاتها هو الطرف الثالث.
فهل ستبقى بكين قادرة على إمساك العصا من المنتصف؟ وخاصة أن الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً في العالم، وهناك آلاف الشركات التي أعلنت إفلاسها في أوروبا وأمريكا، بينما الشركات الصينية عادت إلى الإنتاج بقوة وبسرعة كبيرتين، وهو ما سيساعد الصين على تقليص الفجوة الاقتصادية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وستلعب تقنية الجيل الخامس دوراً كبيراً في ذلك.
وسيكون جزء من مستقبل العالم يتمحور حول إذا ما كانت الصين قادرة وراغبة في تحمل نفقات قيادة العالم أو لا، فالصين اليوم ليست مجرد لاعب كبير، الصين اليوم هي أكبر لاعب عرفه التاريخ.