حوكمة الإنترنت: نحو مزيد من التعاون الأوروبي الأمريكي
تتباين الرؤى بين الدول حول وضع معايير حوكمة الإنترنت بين تطبيق "الإنترنت المفتوح" والاستبدادي.
يخلق تنامي الثورة الصناعية الرابعة، وظهور الابتكارات المرتبطة بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء Iot، تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية تختلف من مجتمع لآخر، فتتولد الحاجة لتنظيم تشريعات تتعلق بحوكمة الإنترنت، وهو الأمر الذي يظهر صعوبته عند النظر لمستجدات بنية التكنولوجيا العالمية، من حيث صعود قوى مثل الصين وروسيا والهند في هذا المجال، فضلا عن صعوبة خلق توافق بين الرؤية الأوروبية والرؤية الأمريكية، في ضوء اختلاف مفاهيم ومعايير كل منهما. وفي ضوء ما سبق ذكره؛ تحاول الباحثتان إيملي تيلور وستاسي هوفمان المتخصصتان بالأمن السيبراني في ورقة بحثية بعنوان "EU–US Relations on Internet Governance" صادرة عن Chatham House، توضيح الأيديولوجية الأوروبية والأمريكية في حوكمة الإنترنت، ودوافع تعاونهم، مختتمين الورقة بمجموعة من التوصيات الخاصة بدعم التعاون الأوروبي الأمريكي.
تشريح مفهوم حوكمة الإنترنت
تستهل الباحثتان الورقة، موضحتين مفهوم حوكمة الإنترنت حيث عرفتاه بأنه مجموعة من قضايا السياسات المرتبطة بالتنسيق العالمي لأسماء وعناوين الإنترنت، ويتم إدارتها عن طريق هيئة تعيين أرقام الإنترنت IANA التي تعمل تحت سلطة شركة الإنترنت للأرقام والأسماء المُخصصة ICANN الكائنة بكاليفورنيا، وتختص ICANN بضبط البروتوكولات واللوائح المتعلقة بالإنترنت، والتي تضبط آلية عمل هيئة تعيين أرقام الإنترنت فتربطها بقضايا تختص بالمجال التكنولوجي وتطوراته مثل تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمعات أو قضايا المحتوى، وكلما زاد التطور كان هناك حاجة لتوسيع اقتراب حوكمة الإنترنت ليشمل المجالات الجديدة وتأثيراتها المختلفة.وتشير الورقة لتطور مفهوم حوكمة الإنترنت مع تطور البيئة العالمية، حيث توسع نطاق تعريف المفهوم في عام 2005 على يد مجموعة من الباحثين، ليصبح "تطوير تطبيق الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص لمجموعة من الإجراءات والقوانين وقواعد اتخاذ القرار المُتعلقة بتطور استخدام الإنترنت"، كما تم تدشين "منتدى حوكمة الإنترنت" في القمة العالمية لمجتمع المعلومات، ويختص المنتدى بمناقشة كل ما يتعلق بحوكمة الإنترنت، والقضايا المستجدة المرتبطة به مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، وغزارة البيانات المتاحة، وانعكاسات الإنترنت على المجتمع، وقضايا الأمن السيبراني وأمن الفضاء الإلكتروني للدول.
رؤى متباينة لحوكمة الإنترنت
تشير الباحثتان إلى تباين الرؤى بين الدول حول وضع معايير حوكمة الإنترنت، حيث ترغب الولايات المتحدة الأمريكية في تطبيق "الإنترنت المفتوح" والذي يسمح بمزيد من الابتكار، وتميل أوروبا لتطبيق "الإنترنت البرجوازي" الذي يحمي الخصوصية وينتقي المحتوى السيئ على حساب زيادة الابتكار، في حين تطبق الصين نموذج "الإنترنت الاستبدادي" والذي تتحكم في إدارة جميع محتوياته، وتستغل ما تريده من بيانات، بينما تسعى بعض الدول كروسيا وكوريا الشمالية لتطبيق "الإنترنت الفاسد" والذي تستغل معاييره المفتوحة في حروبها السيبرانية لتحقيق مكاسب استراتيجية. ويظل هناك تقارب بين الرؤية الأوروبية والرؤية الأمريكية، ولكن هذا التقارب لا يمكن ضمان استمراره مستقبلا، مع احتمالية حدوث صدع فيما يتعلق بتشريعات الإنترنت المرتبطة بحقوق الإنسان وتطبيق القانون، ولذلك تؤكد الورقة ضرورة إيجاد أرضية أوروبية أمريكية مشتركة لمواجهة الرؤى الاستبدادية المتعلقة بحوكمة الإنترنت.
انقسامات حول الجهات الفاعلة في صنع القرار
تسترسل الورقة موضحة أن حوكمة الإنترنت لا يمكن أن تكون في يد الحكومات بصورة كلية؛ لأن المجتمع المدني و"أصحاب المصلحة المتعددين" يكونون على اطلاع واسع بتطورات العملية التكنولوجية؛ لذا تشير الورقة لأهمية إشراك الاتحاد الأوروبي وأمريكا لأصحاب المصالح ذوي الرؤى الموحدة لضبط حوكمة الإنترنت، والذين يساهمون في إضفاء طابع لامركزي وديمقراطي على عمليات صياغة القرارات المتعلقة بسياسات الإنترنت، وتلك الحالة تكون أفضل من تطبيق اقترابات حكومية دولية متعددة الأطراف والرؤى تميل لها دول استبدادية مثل روسيا والصين وإيران.
وتؤكد الباحثتان أن هذا الانقسام يجعل مستقبل الإنترنت رهين بـ4 رؤى متباينة بين الشرق والغرب، مسترسلين في شرح معالم الاختلاف بين أوروبا وأمريكا؛ والتي تخلق فجوة بين النظرية والتطبيق من قبل شركة الإنترنت للأرقام والأسماء المُخصصة ICANN، فتوضح الورقة أن الاختلاف بين النظرية والتطبيق يرجع لتباين الآراء الأوروبية والأمريكية حول تعريف "أصحاب المصلحة المتعددين"، فهم في الولايات المتحدة يشملون المجتمع المدني والأكاديميين والقطاع الخاص، بينما تمتلك أوروبا تعريف مختلف لأصحاب المصلحة المتعددين، إضافة إلى أن هناك اختلافا متعلقا بسياسات السوق الحر بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وبالنسبة ICANN الأمريكية فمديروها غير ملتزمين باتباع نصائح اللجنة الحكومية المتخصصة بحوكمة الإنترنت، وهو ما قد يتعارض مع المنظومة الأوروبية، فتتعقد عملية إيجاد أرضية أوروبية أمريكية مشتركة حول حوكمة الإنترنت.
عوامل مُحدٍدة لحوكمة الإنترنت
يمكننا إيجاز العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية العالمية التي تقوض عملية توحيد الرؤى حول حوكمة الإنترنت كما جاءت في الورقة كالتالي:
١-عوامل سياسية: كزيادة النفوذ الصيني، وإعادة بزوغ روسيا، وتراجع النفوذ الأمريكي، وتنامي الشعبوية وتآكل الإيمان بالديمقراطية.
1- عوامل اقتصادية: زيادة التقدم الصيني والروسي التكنولوجي، تأثير مبادرة الحزام والطريق الممتدة في 70 دولة، القوانين السيادية والانفصال عن الإنترنت العالمي.
2- عوامل اجتماعية: تطور سوق العمل، والتغيرات الديمغرافية المتباينة بين أوروبا وبقية الدول، والانقسام حول استخدام شبكات الجيل الخامس وخصوصية البيانات.
3- عوامل تكنولوجية: التنافس التكنولوجي الصيني الغربي، وانتشار الاقترابات السلطوية الصينية المتعلقة باستخدام الإنترنت، وزيادة التطور التكنولوجي، وتعقد عملية الحوكمة المواكبة له.
نحو مزيد من التعاون الأوروبي الأمريكي
تؤكد الورقة وجود ملامح مشتركة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تتمثل في دعمهم لوجود إنترنت مفتوح للجميع يدعم حرية الرأي والتعبير والابتكار، وتشجيعهم على استمرار عمل منتدى الاقتصاد العالمي، وتحول IANN لمؤسسة عالمية، والميل لإشراك أصحاب المصالح المتعددة في حوكمة الإنترنت، فضلا عن رفضهم تجزئة الإنترنت العالمي، ودعمهم لتطوير الأمن السيبراني، وتعزيز البنى التحتية لمواجهة الهجمات الإلكترونية، وهو ما ظهر في تطبيق الطرفين للنهج الأمريكي طوال الأعوام العشرين الماضية. ولكن زيادة التطورات العالمية تمهد الطريق لحدوث صدع؛ فعلى الرغم من اشتراك الطرفين في خوفهم من انتشار أنظمة الحكم السلطوية، والحيلولة دون حدوث هذا، يظهر التباين بينهم في اقتصاديات السوق الحر، وتحديد مدى دور القطاع الخاص، فضلا عن أن تغير الإدارات الأمريكية يُحدث تبدل في الرؤى التي يتم بها التعامل مع نظام حوكمة الإنترنت، وعند الحديث عن الأمن السيبراني يميل الاتحاد الأوروبي للحديث عن تعزيز سياسات الخصوصية، وحماية بيانات المواطنين، ومكافحة تضليل المعلومات، في حين تميل الولايات المتحدة الأمريكية للحديث عن تطوير الجوانب التقنية.
ولذلك تشير الورقة إلى مجموعة من التوصيات التي تعزز عملية تطوير اللغة المشتركة الأوروبية الأمريكية لمكافحة انتشار نماذج الأنظمة السلطوية مثل الصين وروسيا، والقدرة على ضبط آلية حوكمة الإنترنت، وتتمثل تلك التوصيات في التالي:
• تعزيز التعاون التكنولوجي الأمني عبر مجموعة السبعة (G7).
• دعم عمل وكالة الاتحاد الأوروبي للأمن السيبراني (ENISA).
• تنفيذ شبكة لأمن المعلومات (NIS).
• تطوير دور فريق الخبراء الحكوميين التابع للأمم المتحدة في رسم سياسات حوكمة الإنترنت.
• التعاون بين القطاع الصناعي المحلي والإقليمي والدولي لتعزيز آليات العمل.
• الحيلولة دون سعي الدول الاستبدادية لتوقيع معاهدة للأمن السيبراني.
• تقريب المصالح الدفاعية المتعلقة بالأمن السيبراني.
• زيادة الوعي بالأمن السيبراني وعمليات تضليل المعلومات.
• إشراك منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص وخصوصا بالاتحاد الأوروبي.
وختاما تؤكد الورقة أن التطور سريع الخطى في عالم الإنترنت، يثبط من عملية وضع تشريعات تتعلق بحوكمة الإنترنت، كما أن دخول دول ذات نفوذ على الساحة الدولية التكنولوجية مثل الصين، يجعل ميزان القوى العالمية التكنولوجية غير منحصر في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وبالتالي فشركة الإنترنت للأرقام والأسماء المُخصصة ICANN ليست المنصة العالمية لصياغة إجراءات حوكمة الإنترنت، وهو الأمر الذي يتطلب وضعه في الحسبان لصياغة سياسات حوكمة إنترنت أمريكية أوروبية مشتركة فعالة.