تحقيقات مرفأ بيروت.. هل تعبر سفينة البيطار حواجز السياسة؟
يستكمل المحقّق العدلي في قضية انفجار "مرفأ بيروت"، طارق البيطار، تحقيقاته في الملف بدون توقّف، رغم الحملة السياسية الشرسة التي يواجهها.
وقام البيطار قبل أيام بعملية محاكاة لواقعة تلحيم بوابة عنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، والذي كان يحتوي على نيترات الأمونيوم المنفجرة.
ومن بين الافتراضات في قضية مرفأ بيروت، أن عملية تلحيم بوابة هذا العنبر أدت إلى حريق ثم انفجار نيترات الأمونيوم.
لذلك، أشرف البيطار على عملية إعادة تمثيل تفصيلية لمرحلة تلحيم البوابة، في ظل توفر نفس الظروف المناخية، للتحقق مما إذا كان للأمر التأثير المباشر على اندلاع حريق ثم الانفجار.
ولهذا الغرض، شيدت سلطات التحقيق اللبنانية مجسما مشابها للعنبر رقم 12 على بعد أمتار من الفجوة التي أحدثها الانفجار في المرفأ، مع بوابة متطابقة لتلك التي قيل إنها خضعت لعملية التلحيم، وعمد المحقق العدلي إلى استخلاص النتائج من العملية التمثيلية وتغليفها بالسرية.
كما تابع القاضي البيطار، التحقيقات التقنية عبر استجواب عدد من الموظفين والمسؤولين في مرفأ بيروت والجمارك اللبنانية، واستكمل طلباته إلى الدول التي تملك أقماراً صناعية فوق لبنان لتزويده بالصور والمقاطع المصورة.
لكن استمرار التحقيقات بهذه السرعة والزخم يتطلّب توقّف العرقلة السياسيّة التي بدأت في التضخم بطريقة يستعصي على القاضي أو غيره تجاوزُها، خصوصاً بعدما أخذت منحى طائفيّاً ومذهبيّاً، وفق مراقبين.
حملات سياسية
وخلال الفترة الماضية، تزايدت الضغوط والعراقيل السياسية في وجه التحقيق المدني في قضية مرفأ بيروت، متسلحة بنصوص دستورية وقانونية، إذ تحاول مؤسسات وأطراف سياسية الالتفاف على التحقيق أمام القاضي الطبيعي، عبر تشكيل محكمة خاصة.
فرئيس البلاد، ميشال عون، أبدى استعداده بالفعل للمثول بصفته أمام المحقّق العدلي، لكونه محميّاً ببعض الموادّ الدستورية، لكنه رفض في نفس الوقت رفع الحصانة عن المدير العام لأمن الدولة اللواء أنطوان صليبا المحسوب عليه، فعرقل بالتالي استدعاءه أو الادّعاء عليه، حسب المراقبين.
يأتي هذا بالتزامن مع حملة ضّغط هائلة، تدور منذ حوالَي عام، وتستهدف الإفراج عن المدير العام للجمارك بدري ضاهر المشتبه به في نفس القضية.
فيما تحدث رئيس مجلس النواب نبيه بري عن "فنّ امتطاء الموجات الشعبويّة والاستثمار على القضايا النبيلة".
وموجها حديثه للبيطار، أضاف بري أن "المسار نحو الحقيقة واضح، ويتمثّل بالخضوع لقواعد القانون والدستور بعيداً عن الضغط، وبعيداً عن الاستفزاز واستباحة كرامة الناس، سواء كانوا نوّاباً أم وزراء سابقين وحاليين وإداريين"، مستطردا: "استمع إلى صوت العدالة، لا صوتَ مَن يهمس لك أو يهتف.. إن الباطل كان زهوقاً".
وختم بالقول: "فالويل كلّ الويل لقاضي الأرض من قاضي السماء".
ويتعلق حديث بري بطلب المحقق العدلي رفع الحصانة عن وزراء سابقين يشغلون عضوية البرلمان، وهو ما يرفضه رئيس المجلس التشريعي، ويصر على تشكيل ما يعرف بمجلس محاكمة الوزراء والرؤساء للنظر في أمر هؤلاء، بدلا من القاضي الطبيعي.
ومن البرلمان إلى مليشيات حزب الله الإرهابية، إذ وجه أمينها العام، حسن نصرالله، اتهامات بـ"التسييس وحرف التحقيق" إلى البيطار، رافعاً في وجهه لاءات عدّة، كان أهمّهما "رفض رفع الحصانة عن المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم".
لا تراجع
وأمام هذه العقبات الكبيرة، يتردد في لبنان سؤال واحد: هل يكمل البيطار عمله أم يلتحق بسلفه القاضي فادي صوّان الذي أٌبعد عن قضية مرفأ بيروت قبل أشهر؟
وأمام هذه الأسئلة، يقول المحلل السياسي والمتخصص بالشأن القضائي يوسف دياب، لـ"العين الإخبارية" إن "البيطار يتعرض لأعنف حملة سياسية في الوقت الحالي، وهناك محاولة لدفعه إلى التنحي عن الملف"، مشدداً على أن الأخير "لن يتراجع عن هذه القضية".
وأوضح دياب المقرب من البيطار أن فرصة تنحية الأخير "ضئيلة جداً، لأنه لم يترك ثغرة قانونية يمكن النفاذ منها لطلب التنحية".
مستدركا "من دون شك، ستتعاظم الحملة على البيطار، لكنه مصر على المضي قدما في التحقيق حتى النهاية، ولديه الإيمان بأنه سيصل إلى الحقيقة كاملة وسيضعها أمام الرأي العام، ويريد إنصاف أهالي الضحايا والجرحى ويعتبرها قضيته كما هي قضية كل اللبنانيين".
وكشف أن "المرحلة المقبلة ستشهد تحقيقات مكثفة إضافة إلى سلسة توقيفات جديدة ستطال أشخاصاً كانوا في سدة المسؤولية عند دخول النيترات إلى مرفأ بيروت، وحفظها فيه لمدة طويلة من دون أن تعالج أو تنقل".
ولفت إلى أن "جميع الأشخاص غير المشمولين بالحصانات الأمنية والسياسية، سيمثلون أمام قاضي التحقيق في الأسبوعين أو الثلاثة المقبلة".
وأوضح أن "التحقيقات الجديدة ربما ستؤسس للائحة ادعاءات جديدة أيضاً"، مشيرا إلى أن "يملك أسماء في هذا الموضوع" لكنه لن يفصح عنها "لحين انتهاء التحقيقات".
أما عن الأشخاص المشمولين بالحصانات النيابية كالوزراء غازي زعيتر وعلي حسن خليل ونهاد المشنوق، فلن يستطيع البيطار استجوابهم إذا لم تٌرفع الحصانة عنهم وسيبقون خارج الملاحقة، وفق المصدر ذاته.
وفيما يخص رئيس حكومة تسيير الأعمال، حسان دياب ومدير عام الأمن العام ومدير عام أمن الدولة، يقول: "إذا لم يمثلوا أمام القاضي، فالمعلومات تشير إلى أنه سيلجأ إلى خيارات قانونية تلزمهم بالمثول أمامه، ولن يفصح عن تفاصيلها في الوقت الحالي".
الخبير القانوني ختم حديثه قائلا "البيطار لن يتراجع عن مهمته إلا إذا تعرض لعمل أمني يستهدف حياته أو مورست ضغوط هائلة على محكمة التمييز لإبعاده عن القضية".
مبينا أن "هذه هي الأمور التي يمكنها وقف اندفاع البيطار لكشف الحقيقة، التي ستظهر في لائحة الاتهام التي يمكن أن يصدرها قبل نهاية السنة الحالية".
رئيس الحكومة
وفيما يتعلق باستدعاء رئيس حكومة تسيير الأعمال، يُشير الخبير الدستوري عادل مالك إلى المادة "85" من قانون الأصول الجزائيّة، والتي تنص صراحةً على "إذا اقتضت الدعوى سماع إفادة رئيس مجلس الوزراء، وَجُبَ انتقال قاضي التحقيق مع كاتبه إلى مقرّه للاستماع إلى إفادته (أي في السرايا الحكومية)".
ويقول مالك "بالتالي، ليس في استطاعة المحقّق العدلي إصدار مُذكّرة إحضار بحق رئيس الحكومة المستقيلة دياب، بحجّة تخلُّفه عن الحضور أمامه، لأنّ القانون يفرض انتقال المحقّق العدليّ إلى السرايا الحكوميّة للاستماع إلى إفادة رئيس مجلس الوزراء، احتراماً للمقامات والمواقع، وتقيُّداً بنصوص القانون الواضحة والصّريحة".
ويوضح في حديث لـ"العين الإخبارية"، "كان يُفترض بالمحقّق العدلي أن يقصد مع كاتبه، السرايا الحكومية في التاريخ المُحدّد للجلسة، وفي حال عدم استقباله، يحرر محضرا بذلك، ثمّ يُمكنه إصدار مُذكّرة إحضار".
ويتابع "أمّا أن ينتظر المحقق العدلي رئيس الحكومة في مكتبه ليحضر أمامه، فهي هفوة من شأنها نَسْف مُذكّرة الإحضار برُمّتها لمخالفتها الأصول والأحكام القانونية الملزمة، لاسيما المادّة "85" من قانون الأصول الجزائية".
ويضيف: "بالعودة إلى مُجريات التحقيق، يتبيّن جليّاً أنّ سبب مُلاحقة رئيس الحكومة يعود إلى كَونه تبلّغ بوجود موادّ مُتفجّرة في مرفأ بيروت من قبل المديرية العامة لأمن الدولة، قبل نحو أسبوعين من تاريخ الانفجار، ولم يتصرّف".
رئيس الجمهورية
وبعيدا عن ذلك، يبقى سؤال مطروح أيضا، "ألَمْ يتم تبليغ رئيس الجمهورية من جهاز أمن الدولة، بوجود المواد المتفجرة قبل نحو أسبوعين من تاريخ الكارثة؟
وفي هذا الإطار، يقول مالك: "ثمّة مَن يقول إنّ رئيس الجمهورية لا يملك الصلاحيات للتصرف في هذا الأمر"، علماً بأنّ هذا الدفاع لا يستقيم، لكونه كان بإمكان رئيس الدولة وَفَوْرَ عِلمه، دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد بشكل طارئ، وكذلك المجلس الأعلى للدفاع، لاتّخاذ ما يَلزَم من تدابير وإجراءات".