العديد من المدن الإيرانية باتت مغلقة من الناحية العملية. والضحايا يتساقطون بالآلاف كل يوم. والنظام الصحي منهار كليا
تلك هي إيران. الشهادات التي يقدمها الإيرانيون المحاصرون في عشرات المدن تكشف عن واقع مروع، لم يشهد له العالم مثيلا على الإطلاق. هم يعرفون أولا أن نظامهم يكذب بشأن أعداد الوفيات والمصابين بوباء كورونا، ويتخذ من العقوبات المفروضة على نظامهم ذريعة لتبرير الفشل، وهم يرون ويعيشون من الواقع ما لم يعرفه أي شعب آخر على سطح هذا الكوكب.
عديد من المدن الإيرانية باتت مغلقة من الناحية العملية. والضحايا يتساقطون بالآلاف كل يوم. والنظام الصحي منهار كليا. إذ لم يعد بوسع المستشفيات أن تستقبل المرضى، ولا تتوفر لديها الإمكانات من الأساس لإسعاف المصابين في الحالات الحرجة، والطاقم الطبي نفسه تحول إلى ضحية لموجة من الإصابات دفعت كثيرا منهم إلى البقاء في المنازل، ليس خوفا على أنفسهم، وإنما بسبب العجز عن تقديم العون للمرضى.
يقول طبيب في أحد مستشفيات مقاطعة جيلان الشمالية (كما نقل تحقيق لـ"بي بي سي"، في حديث تم يوم 20 مارس/آذار الماضي) إنه يعمل بلا هوادة منذ تفشي الفيروس لإنقاذ حياة مرضاه، وإنه لم ير عائلته منذ 14 يوما
وبينما تغرق محافظات مثل طهران وخراسان وخوزستان وكرمانشاه وبوشهر وقم، بأعداد هائلة وغير محسوبة من المصابين، فإن التقديرات تشير إلى أن أعداد الوفيات تبلغ عشرين ضعفا على الأقل من الرقم الذي كشفت عنه الحكومة. والإصابات شملت نحو مليون إنسان. ولو توفي 1% منهم، كما هو الحد الأدنى لمعدل الوفيات، فإن العدد الإجمالي سوف يبلغ 100 ألف إنسان. ولكن المخاوف تذهب إلى أن نصف مجموع السكان، البالغ عددهم 83 مليون نسمة سوف يصابون في النهاية، وسط بيئة متداخلة من الأسباب، من قبيل عدم اتخاذ إجراءات مبكرة بالعزل، والجهل المتفشي بين بعض الناس، والاستهانة الرسمية بالضحايا وفشل النظام الصحي، وانهيار المستشفيات، وعدم توفر الموارد.
ويقول ريك برينان، مدير الطوارئ في منظمة الصحة العالمية الذي زار إيران في 17 مارس/آذار الماضي، إن "العدد الإجمالي الفعلي لكوفيد -19 قد يكون أعلى بخمس مرات من الإحصاءات الرسمية". هذا في منتصف الشهر الماضي، فما بالك الآن.
في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي (23 مارس/آذار تحديدا)، غرد المتحدث باسم وزارة الصحة كيانوش جهانبور، بأن 50 شخصا في المتوسط يصابون بالفيروس كل ساعة. وهو ما يعني 1200 كل يوم.
حبل الكذب قصير جدا في إيران. والناس تعرف الحساب. فحيث إن المعدلات المعروفة تشير إلى أن كل مصاب يصيب ما يتراوح بين 3 و9 أشخاص، فإن الحد الأدنى للإصابات في اليوم التالي (على ذلك التاريخ على الأقل) تشير إلى إصابة 3600 إنسان، وفي اليوم الذي يليه 10800، وهكذا في متوالية عددية تجعل التقديرات بإصابة مليون شخص متواضعة للغاية.
في التغريدة ذاتها، قال جهانبور إن شخصا واحدا يموت كل عشر دقائق، أو 144 في اليوم (بين الـ1200 مصاب)، وهذا بدوره رقم متواضع، وهو يخفي الحقيقة على نحو مكشوف. ذلك أن النظام الصحي الإيراني المتهالك منذ أكثر من عشر سنوات، أردأ بما لا يقاس بالنظام الصحي في إيطاليا أو إسبانيا أو بريطانيا. ومع ذلك فإن معدلات الوفيات في هذه البلدان كانت تبلغ عدة مئات كل يوم، وذلك برغم سياسات الإغلاق الشامل، وبرغم الثقافة العامة والوعي الصحي. فكيف في بلد أصبح الجهل فيه سلعة ذات طابع ديني مقدس؟!
يقول طبيب في أحد مستشفيات مقاطعة جيلان الشمالية (كما نقل تحقيق لـ"بي بي سي"، في حديث تم يوم 20 مارس/آذار الماضي)، إنه يعمل بلا هوادة منذ تفشي الفيروس لإنقاذ حياة مرضاه، وإنه لم ير عائلته منذ 14 يوما. ولقد فقد زملاء وأصدقاء، بما في ذلك معلمه السابق، وأستاذه في كلية الطب. ويقول: "لا يقتصر الأمر على مستشفانا. فقد أدى تفشي الفيروس إلى شل نظامنا الصحي بأكمله". و"معنويات الموظفين متدنية للغاية. أسرنا قلقة للغاية ونحن تحت ضغط هائل". "ليس لدينا ما يكفي من الأقنعة. وفريقنا الطبي يموت يوميا".
ولقد فوجئتُ بكثرة الشهادات المروعة، وأنا أبحث عن "القصة الحقيقية في إيران عن كورونا"، لأكتشف أن ملايين الإيرانيين اتخذوا إجراءات بمحض إرادتهم، من دون توجيه. بما في ذلك البقاء في المنازل، حتى عندما يمرضون. والمئات منهم يموتون بصمت. بينما تقوم السلطات بتسجيل الوفيات على أنها "التهاب رئوي" أو "فشل كلوي" أو "قصور في القلب"، لكي لا تقول إنهم توفوا بسبب الوباء.
أطباء من ثلاث محافظات، هي جيلان وجولستان ومازاندارن، قالوا لهيئة الإذاعة البريطانية إن هناك عددا قليلاً جدا من أدوات الفحص، وإن الإمدادات الطبية محدودة، بما في ذلك الأدوية الأساسية وخزانات الأكسجين والأقنعة المعقمة والفرك الوقائي والقفازات.
نصف الإيرانيين سوف يصابون في النهاية، قبل أن تتوفر الحماية الطبيعية للنصف الآخر، وذلك وفقا لطبيعة الخيار الذي تركه نظام الولي الفقيه لشعبه: "مناعة القطيع". وهذه مجزرة. لا يملك الضحايا أن يعملوا حيالها أي شيء. السلطات تتكتم على الحقائق. ولكنها تفعل ذلك، ليس خوفا من الوباء، ولكن خوفا من أن يؤدي انكشاف الفشل إلى تمرد عمال النظام ومجنديه ومسؤوليه أنفسهم، بما أنهم باتوا ضحية مكشوفة للوباء.
نظام الولي الفقيه يملك، بطبيعة الحال، صكوك غفران عن الوفيات. وهو لا يأبه بهم انطلاقا من الاعتبارات القدرية المألوفة. وهي اعتبارات يتم توظيفها للتغطية على فشل النظام في توفير الرعاية الأساسية لشعبه. وهو ما ينطوي على إساءة حقيقية لمفهوم القدر نفسه، وتوظيف رخيص له. الفشل ليس قدرا، وإلا ما كانت هناك حاجة لنظام صحي من الأساس.
ولكن الوباء مفيد بالنسبة للولي الفقيه، لأنه يسهم في تأديب الشعب الذي تمرد على سلطته، وهو ينظر إليه على أنه عقاب رباني للخروج عليه.
وصكوك الغفران مفتوحة أمام مليشياته في كل مكان، تلك التي تفسد وتقتل وتستبد وتدفع إلى انهيار مؤسسي مماثل. بل إن لهذا الانهيار مكانة مركزية في ثقافة الجهل الطائفي التي يشيعها النظام، وهي التي تستند إلى القول إنه "كلما زاد الظلم والجور، اقتربت ساعة عودة المهدي المنتظر". سوى أن الظلم والجور هو جور وظلم أولئك الذين ينتظرونه بأنفسهم. ولو تلك الخرافة كانت حقيقة، فإنها تخصّهم هم بما ارتكبوه من جرائم وأعمال فساد وقهر واستهانة بحياة البشر.
لقد ظل الإيرانيون يعانون من هذا الوباء لـ40 عاما متواصلة. وبسبب منه، لا بأي سبب آخر، صار وباء كورونا ينهش حياة مئات الآلاف من الضحايا، فوق مئات الآلاف ممن قضوا بجرائم نظام القهر والفشل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة