شمل خطاب الرئيس ترامب للانسحاب من الاتفاقية النووية مع إيران يوم الثلاثاء الماضي أربعة إجزاء مدروسة تهدف إلى خلق موازنة جديدة
شمل خطاب الرئيس دونالد ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران يوم الثلاثاء الماضي، أربعة أجزاء مدروسة تهدف إلى خلق موازنة جديدة في الملف النووي الإيراني، من الصعب قبولها من قبل طهران، ومن الأصعب رفضها مباشرة، بسبب تداعياتها الكارثية التي ستأتي متعاقبة على نظام الولي الفقيه.
والأجزاء الأربعة هي: إعلان الانسحاب وإعادة العقوبات الأميركية وفتح باب المفاوضات لتعديل بنود الاتفاق، والوقوف مع الشعب الإيراني في وجه نظام ديكتاتوري قابع على صدره منذ 40 عاماً.
وتعتبر هذه الأجزاء الأربعة خارطة طريق ذكية تفرض نفسها على الطرف الإيراني؛ وتصعّب عليه الحركة وتقلص من هامش المناورة حوله، وتدفعه للدخول في ساحة المقلب الذي رسمه الرئيس ترامب إليه، دون لف ودوران. وفعلاً دخلت إيران الساحة وفقاً للقواعد الأميركية الجديدة حين قِبل الرئيس الإيراني البقاء في الاتفاق النووي ومتابعة الأمور تحت سقف "اللجنة المشتركة لحل خلافات الاتفاق النووي الإيراني" والمنبثقة عن نفس الاتفاق في عام 2015 في لوزان.
واللجنة المشتركة تعتبر الممّر القانوني الوحيد لإيران لتتابع "المنازلة الحالية" مع الولايات المتحدة من خلال السُبل الدبلوماسية والقانونية، بدعم من بعض الدول الأوروبية. وتضم هذه اللجنة وزراء خارجية مجموعة خمس 5+1 إضافة إلى مساعدي الوزراء الستة وإيران.
وستعمل اللجنة في حال قدمت إيران شكوى ضد الولايات المتحدة من خلال هيئتها الاستشارية التي تجمع الشاكي و المشتكي عليه والطرف الوسيط – يعني إيران والولايات المتحدة وممثل الاتحاد الأوروبي – وفي حال عدم التوصل إلى نتيجة ملموسة، ترفع القضية إلى مجلس الأمن بهدف صدور قرار أممي لصالح رفع العقوبات الإيرانية أو وضعها من جديد.
الكثير من المتابعين لشأن الملف النووي الإيراني يعتقدون أن ما تريده إيران من أوروبا، هو فتح جبهة جديدة مع الولايات المتحدة والدخول في "حرب تجارية" كما حصل بعد انتهاء الحرب الباردة، فهذا من المستحيل أن يحصل في الوقت الراهن نظراً لطبيعة الاقتصاد الأوروبي وتعلقه بالاقتصاد الأميركي.
وكما واضح للعيان، فإن السبيل الذي اختارته إيران للمواجهة مع الولايات المتحدة في أروقة الأمم المتحدة، بطبيعة سلوكها المثيرة للجدل في إطلاق الصواريخ الباليستية وتدخلاتها في شؤون دول المنطقة، ورفضها لدخول المفتشين إلى المواقع العسكرية المشبوهة في داخل إيران، وأيضاً بطبيعة طريقة عمل اللجنة المشتركة وقراراتها غير الملزمة، ستبقى محاولة فاشلة وغير مجدية، لا تقدم شيئا للنظام الإيراني يمكن التمسك به في هذا الطريق.
ولكن على الرغم من ذلك وعلى الرغم من علم القيادة الإيرانية بـ ميكانيكية اللجنة المشتركة وعدم جدواها وقلة فائدتها، يبدو أن إيران لا خيار لها إلا البقاء في هذا المسار، والتفاوض مع الأوروبيين على هذا الأساس.
سينطلق محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران إلى عدة عواصم أوروبية يوم الإثنين القادم، ومن المتوقع أن يقوم بدراسة كيفية تحريك اللجنة المشتركة واستحقاقاتها القانونية مع نظرائه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا من جانب، والضغط على الأوروبيين للبقاء في إطار التزاماتهم الاقتصادية والسياسية حسب العقود المبرمة بين الجانبين، وتحت مظلة الاتفاق النووي من جانب آخر.
أما الرد الأوروبي سيكون مفعماً بالقول والإرادة لكن قليل من التطبيق، بسبب طبيعة العقوبات الأميركية التي ستدخل حيز التنفيذ في 4 نوفمبر القادم، والتي لا تترك ثغرة وراءها إلى الشركات الأوروبية، الا بالتنسيق مع الزعامة الأميركية، وهذا المدخل بالتحديد للتخفيف من العقوبات الأميركية تجاه الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، يتطلب الالتزام بالمطالب الأميركية حول النشاط النووي الإيراني، سيدفع الأوروبيين للضغط على إيران بقبول بعض التعديلات في بنود الاتفاق النووي.
ويعرف المفاوض الإيراني جيداً أن سبيل المفاوضات الإيرانية مع الدول الأوروبية سيحتك بشدة بـضغوط إعادة العقوبات الأميركية على طهران، وسيخضع إلى تأثيراتها لا محالة، كما قال عباس عراقجي كبير المفاوضين الإيرانيين "أن الاتفاق النووي في ظل غياب الولايات المتحدة، أصبح بلا طعم"، فهذا الاعتراف الإيراني بـ دور الولايات المتحدة الرئيسي في الاتفاق، سيخلق مقصلة فوق الرؤوس، يبقى رأس الولي الفقيه تحت تهديداتها كما كان حاله قبل الوصول إلى هذا الاتفاق عام 2015.
فإيران العمائمية في هذا الحال، وقعت مرة ثانية في نفس الشباك التي كانت محصورة فيها قبل إبرام الاتفاق النووي، إثر الأخطاء التي ارتكبتها بحق جيرانها العرب وقراءتها الخاطئة للأوضاع الإقليمية والدولية.
وفي اليوم الثاني من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، فإن القيادة السياسية والإعلام الإيرانيين وضعا كل آمالهما في سلة الأوروبيين؛ على الرغم من علمهما التام بأن كواليس الأمور وظواهرها، تفيد بأن الاتحاد الأوروبي غير قادر بصنع المعجزات للنظام الإيراني حينما تأتي العقوبات الأميركية، وستشمل الشركات الأوروبية وليست دولها، وسيسمع محمد جواد ظريف من الأوروبيين ما قد يعرفه مسبقاً، أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي دخلت في استثماراتها مع إيران، و الدول الأوروبية لا حيلة لها للضغط على تلك الشركات للبقاء في إيران، طالما هناك غرامات مالية كبيرة تواجهها من قبل الخزانة الأميركية.
يبدو أن مهمة ظريف في أوروبا فشلت قبل أن تبدأ، حيث إن الكثير من المتابعين لشأن الملف النووي الإيراني يعتقدون أن ما تريده إيران من أوروبا، هو فتح جبهة جديدة مع الولايات المتحدة والدخول في "حرب تجارية" كما حصل بعد انتهاء الحرب الباردة، فهذا من المستحيل أن يحصل في الوقت الراهن نظراً لطبيعة الاقتصاد الأوروبي وتعلقه بالاقتصاد الأميركي.
أما على أكثر تقدير، فإن إيران ستطالب الأوروبيين بالضغط على ترامب من أجل تقديم إعفاءات اقتصادية على الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران مثلما كان يفعل الرئيس الأميركي السابق أوباما قبل إبرام الاتفاق النووي. هذا المطلب أيضاً سيواجه عرض الجدار نظراً لشخصية ترامب وميوله بالابتعاد عن كل ما كان يفعل به الرئيس الأميركي السابق.
ولكن بين هذا وذاك، هناك طريق قصير للأوروبيين و الإيرانيين لتفادي الكارثة وهو الرجوع إلى المفاوضات الحقيقية حول برنامج إيران النووي، وسياساتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وحين تدخل إيران في هذا المسار، سيكون كل العالم دعماً لها، من ترامب في الولايات المتحدة إلى الجوار العربي ومروراً بالاتحاد الأوروبي.
فالتجارب السابقة للنظام الطائفي الحاكم في طهران تقول، عندما يُحشر الولي الفقيه في زاوية ضيقة، يضطر إلى رفع راية الاستسلام وهذا كان حاله في قضية احتجاز الرهائن الأميركيين والحرب العراقية الإيرانية والعقوبات النفطية في عام 2012. وفي الوقت الراهن يبدو أن الرئيس ترامب وضع الولي الفقيه في نفس الزاوية.. وعليكم أن تتحلوا بالصبر حتى ترون استسلامه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة