حين مات الخميني تمت عملية تزوير شرسة وشديدة الوطأة، فقد تم الزج بعلي خامنئي، وهو في ذلك الوقت في رتبة علمية دنيا.
لم تتوقف ثورة الخميني 1979 عند توظيف الدين والمذهب من أجل السلطة السياسية، والإمساك بمقاليد القوة في المجتمع الإيراني، والجلوس على عرش الطاووس الفارسي العتيق، بل تمادى الخميني ومن جاء بعده في عملية معقدة ومتواصلة من تزوير المرجعية، والتلاعب بالمذهب والدين من أجل تمكين "شلة" الخميني، وتلاميذه وأتباعه، والتخلص من كل المراجع العظام الذين سبقوه بالعلم، وفاقوه بالتقوى والورع والبعد من عن حظوظ الدنيا.
من المؤكد أنه سوف تستمر عملية التزوير في المرجعية للإمساك بالسلطة السياسية بعد السيد علي خامنئي لضمان مصالح نفس "الشلل" الدينية والسياسية والعسكرية التي استولت على إيران بعد 1979، وسيستمر توظيف الدين لخدمة السياسة
وفي سبيل الإمساك بتلابيب السلطة السياسية لم تتوقف تلك العصابة عند حدود التزوير بل إنها تورطت في تصفيات للمنافسين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والتصفيات هنا لم تكن للسياسيين من رجال الشاه السابقين الذين انضموا للحكم الطائفي الجديد، بل للمراجع الدينية المنافسة من داخل الحوزة ذاتها، وللمثقفين الذين مهدوا للثورة مثل الدكتور علي شريعتي.
تقوم نظرية ولاية الفقيه التي رسخها الخميني على مبدأ أساس هو "نظرية الأعلمية"، وهذه تعني أن الفقيه الذي ينوب عن الإمام الغائب لا بد أن يكون هو "أعلم" أهل زمانه، سواء أكانت هذه الأعلمية في جميع علوم الدين، أي أن يكون أعلم أهل الزمان في جميع فروع الدين، أم أعلمهم فيما يتعلق بالحلال والحرام؟ وقد اختلف مراجع الشيعة الإمامية في تحديد تعريف دقيق للأعلمية، وفي كيفية قياسها، وكيفية تحديدها، ومن الذي يستطيع أن يحدد الأعلم في كل زمان؟ وهل يكون ذلك الأعلم في كل الأقطار أم في قطر واحد؟ وهل يتم تحديده بإجماع آراء أهل العلم؟ أم باختيار مجموعة منهم؟ ومن يحدد هذه المجموعة؟ ..إلخ.
هذه القاعدة ضرب بها الخميني عرض الحائط، وتجاوزها تجاوزاً كاملاً، وبذلك أفسد مسلمات المذهب، وخالف الشرط الأساسي لشرعية الولي الفقيه، وحول أسس شرعية الولي الفقيه من القواعد الدينية التي يحددها مبدأ "الأعلمية" إلى الغلبة السياسية، والسطوة الحزبية، والهيمنة الجماهرية التي تحددها الحزبية السياسية، والغوغائية الشعبية.
وحين رجع الخميني على متن طائرة فرنسية إلى طهران كقائد ثوري جماهيري شعبي؛ كانت المرجعية الدينية معقودة لعلماء كبار يفوقون الخميني من حيث "الأعلمية" هم المرجع الديني الكبير آية الله شريعتمداري، الذي كانت في يده إدارة الحوزة العلمية في قم بصفته المرجع الأعلى في إيران، وكان معه على نفس المستوى آية الله مرعشي نجفي، وآية الله كلبايكاني، ولكن ثورة الخميني وما نتج عنها من سلطة سياسية دينية سارعت بفرض الإقامة الجبرية على آية آلله شريعتمداري وآية الله محمد الشيرازي، ليخلو المجال للخميني ويتصدر المشهد؛ ويكون هو المرجع الديني الأول بقوة السلطة السياسية، وجبروتها، وبتجاوز كامل لأهم أسس نظرية ولاية الفقيه، وهو مبدأ "الأعلمية"، وبذلك قامت ثورة الخميني بعملية تزوير ديني خطير، واستمر هذا التزوير وصاحبته عمليات معقدة للتخلص من المنافسين بعد الخميني.
وحين مات الخميني تمت عملية تزوير أكثر شراسة، وأشد وطأة، فقد تم الزج بالسيد علي خامنئي، وهو في ذلك الوقت في رتبة علمية دنيا، فقد كان يحمل لقب "حجة الإسلام"، وليس لقب "آية الله" الذي يجعله مؤهلاً لأن يكون في صف من يتنافسون على مبدأ "الأعلمية" ليكون "الولي الفقيه"، وقد تمت هذه العملية بترتيب وحنكة لا تخلو من التآمر من زميله حجة الإسلام هاشمي رفسنجاني؛ للحفاظ على مصالح "الشلل" أو "اللوبيات" الدينية والسياسية والعسكرية التي تحكمت في إيران بعد ثورة الخميني. وقد وقع الاختيار على خامنئي لأنه من السهل التحكم فيه لتدني رتبته الدينية، وللتخلص من آية الله منتظري ذلك الحبر العملاق الذي عزله الخميني قبل وفاته وظن أنه تخلص منه للأبد.
وتم تمرير مرجعية السيد خامنئي من خلال تغيير الدستور الإيراني عام 1989 ليكون شرط المرجعية منطبقاً عليه بعد حذف كل الاشتراطات الدينية والعلمية التي لا تنطبق على من يحمل رتبة حجة الإسلام الدنيا في سلم المرجعية الدينية، واستطاع السيد خامنئي الاستحواذ على المرجعيتين الدينية والسياسية معاً بعد أن تم التخلص من كل المراجع الكبار إما بانتظار موتهم، أو باستبعادهم من الصورة، وخلا الأمر للسيد علي خامنئي، الذي يعد من أهم تلاميذ سيد قطب؛ فقد ترجم له إلى اللغة الفارسية كتابين هما: المستقبل لهذا الدين، والإسلام ومشكلات الحضارة "بيان ضد الحضارة الغربية".
وفي 8 يناير 2017 مات حجة الله الإسلام هاشمي رفسنجاني في مسبح فرح المملوك لزوجة الشاه الراحل شاهبانو فرح بهلوي، وبعد اندلاع المظاهرات في شوارع المدن الإيرانية في 2018 خرج من رجال الحوزة في قم من يهدد الرئيس حسن روحاني بالقول "المسبح في انتظارك"، في إشارة واضحة إلى أن وفاة رفسنجاني لم تكن عادية، وأن الرئيس روحاني قد يلاقي نفس المصير إذا لم يكن في طوع المرجعية المزورة.
ومن المؤكد أنه سوف تستمر عملية التزوير في المرجعية للإمساك بالسلطة السياسية بعد السيد علي خامنئي لضمان مصالح نفس "الشلل" الدينية والسياسية والعسكرية التي استولت على إيران بعد 1979، وسيستمر توظيف الدين لخدمة السياسة، وتوظيف المذهب لخدمة العنصر الفارسي، وأحلام إعادة الإمبراطورية، وستأتي هذه "اللوبيات " أو "الشلل" جمع "شلة" بمن تصنعه كمرجع وولي فقيه حتى وإن كان أدنى رتبة من حجة الإسلام في سلم الرتب الدينية للحوزة العلمية المكرمة.
في بحثه الرائع "نظرية الأعلمية في الفكر الشيعي وأرمة اختيار الولي الفقيه" المنشور في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية؛ أورد الأستاذ محمد السيد الصياد كلمة للمفكر الشيعي هاني فحص؛ يقول فيها "إن الإيراني استيلائي، لا يُحبّ أن يكون له دور وإنما نفوذ. الدور يعني الشراكة، الدور يشترط الآخر، والنفوذ استتباع واستلحاق، زبائني ريعي يشتري الرقبة والقرار، يهمّه الوصول إلى هدفه، هو براغماتي جدًّا ومسكون بهاجس الإمبراطورية التي يريد استعادتها بمنطق القوة الفارسية أو الشيعية أو الإيرانية مقابل الكثرة العربية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة