إيران لا تتعامل بمنطق اعتباطي بل إن مخططها يأتي في سياق تنظيمي ورؤية استراتيجية للمساس بأمن الخليج العربي بأكمله في توقيت بالغ الأهمية.
تدرك إيران جيدا أن القوى الدولية والعالم العربي لن يقفوا أمام الممارسات غير المشروعة لها، ولم يقبلوا بالتعامل مع سياسات الأمر الواقع التي تسعى إيران للعمل بها من خلال توظيف واستثمار الحوثيين في اليمن للمساس بأمن المنطقة بأكملها، وليس أمن البحر الأحمر أو مضيق باب المندب فقط.
ولعل ما جرى خلال الأيام الأخيرة يشير إلى وقائع جديدة ستجري في مجرى الملاحة الدولية الخاصة بمضيق باب المندب والبحر الأحمر ومضيق هرمز بصرف النظر عما طرح أمريكيا بإمكانية لقاء الرئيس ترامب والرئيس الإيراني.
الجانب الأمريكي مطالَب أن يكون حازما ومحددا في التعامل مع الجانب الإيراني مع اتباع استراتيجية استباقية، وعدم الاستمرار في خيارات عامة وسيناريوهات مطولة تعمل على تطويق إيران ومحاصرتها وتضييق مجالات تحركها السياسي والاستراتيجي
أولا: حسنا فعلت السعودية عندما أعلنت وقفا فوريا مؤقتا لجميع شحنات النفط الخام السعودي، والتي تمر عبر مضيق باب المندب إلى أن تصبح الملاحة البحرية آمنة في المضيق.
ويبعث الإجراء السعودي في مضمونه برسالة مهمة إلى المجتمع الدولي ممثلا في مجلس الأمن بضرورة الوقوف في مواجهة المليشيات الحوثية المدعومة من إيران، والتي تباشر تهديداتها في المنطقة والتي لم تعد مقتصرة على باب المندب، وهو ما سوف يؤثر على حركة التجارة الدولية والملاحة البحرية، وسيقف في مواجهة ما تخطط له إيران بهز الاستقرار الراهن في سوق النفط.
وبالتإلى فإن مجلس الأمن وحده هو المخول شكلا ومضمونا في التعامل مع أية مخاطر محتملة، أو تهديدات تطال سلامة البحار والمضايق والممرات، ووفقا لما يحدده قانون البحار وبمقتضى نص المادتين 41 و42، ومن ثم فإن الاعتداء على أية ناقلات هو اعتداء على القانون الدولي بكل مقرراته، وهو ما تعلمه جيدا إيران ومع ذلك تسعى لخلط الأوراق، والسعي للدخول في مواجهات مفتوحة، وفي الذاكرة ما قامت به الدول الكبرى عندما تم تهديد الأمن في المحيط الهندي وبحر العرب حيث شاركت الدول الكبرى في حماية الممرات المائية ضد ظاهرة القرصنة، فهل يمكن أن يتكرر الأمر أم أن تطورات العلاقات الإيرانية الأمريكية والتحول الأمريكي الأخير بمقترح الرئيس ترامب المفاجئ سيقف حجر عثرة في تنفيذ ذلك فعليا؟
ثانيا: ستظل إذن سلامة خطوط الملاحة البحرية على المستوى العربي والدولي مسؤولية مباشرة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ومن ثم فلا جدال أن حالة الصمت على التهديدات الإيرانية وأذرعها في البحر الأحمر وباب المندب ستشجعها على الاستمرار في مخططها في اليمن بالأساس، واستمرار دعمها المباشر والمفتوح لأنصار الله الحوثي، وسيطرته على الحديدة وصنعاء برغم القرار التكتيكي لقوات التحالف بوقف عملية تحرير الحديدة لإعطاء المبعوث الأممي فرصته في إنجاح المفاوضات المقترحة، والتي يسعى المبعوث الأممي مارتن جريفيث للتوصل إليها.. فهل سيكون البديل العسكري والاستراتيجي المطروح في حال تجمد الجهود الدبلوماسية هو استمرار التحالف في أداء دوره وإنجاح خطواته الاستراتيجية في كامل ربوع اليمن بمعني إنهاء التحالف عملية تحرير الحديدة، ومن ثم صنعاء لأنه لا رهان رابحا في ظل تبني إيران استراتيجية دفع الإقليم بأكمله للمواجهة، وعدم اقتصار ذلك على المواجهات في المندب وهرمز أم أن هناك خيار بديل؟
ثالثا: تدرك إيران أن مضيق هرمز وقناة السويس ممرات مائية استراتيجية، وغير مسموح فيها لأنصاف الحلول وأشباه الخيارات بصرف النظر عن البعد القانوني خاصة وأن القوى الدولية تتعامل مع الملاحة البحرية من منطق مصلحي بحت.. وصحيح أن السعودية تملك خيارات بديلة ممثلة في خط الأنابيب الذي يربط الشرق بالغرب لنقل البترول من الحقول السعودية على الخليج إلى ينبع في البحر الأحمر، وهو بديل استراتيجي عن المرور في مضيق باب المندب إلا أن هذا الأمر ليس معناه أن السعودية والدول الحليفة ستقبل بالفعل باستمرار التهديدات الإيرانية في ظل احتمالات إغلاق مضيق باب المندب بالكامل مما يعني نجاح الجانب الإيراني في مخططه في هز الاستقرار في سوق النفط، وعدم وجود البديل الذي يمكن أن يكون مطروحا في ظل التكلفة العالية التي قد تتحملها ناقلات النفط إلى خارج المنطقة مرورا برأس الرجاء الصالح مما سيؤدي بالفعل لهزة حقيقية في الأسواق الخاصة بالنفط خاصة وأن تداعيات ذلك ستمس أيضا قناة السويس، وخط سوميد الذي يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط.
رابعا: إن إيران لا تتعامل بمنطق اعتباطي بل إن مخططها يأتي في سياق تنظيمي ورؤية استراتيجية للمساس بأمن الخليج العربي بأكمله في توقيت بالغ الأهمية، وفي ظل تخوفها من تفعيل برنامج العقوبات بالكامل، وعدم قدرتها على الإفلات من تبعاته مثلما حاولت من قبل، والرسالة أن إيران لن تغامر بوقف الشحنات من هرمز برغم تتالى تهديداتها لإدراكها أنه الخيار صفر الذي لا يمكن انتهاجه، لأن الولايات المتحدة لن تقبل بدخول مضيق باب المندب أو هرمز في لعبة المقايضات السياسية والاستراتيجية برغم أن الموقف الأمريكي وبناء على مواقف سابقة يمكن أن يتغير في شكله أو مضمونه لحسابات تتعلق بالموقف الاستراتيجي، والتعامل المخطط له مع الجانب الإيراني في الفترة المقبلة، والذي سيرتبط بحسابات أمريكية محددة تجاه الاتحاد الأوروبي من جانب وروسيا بعد هلسنكي من جانب آخر، مما يؤكد على أن الجانب الأمريكي قد ينتظر بعض الوقت لحسم موقفه النهائي مما يجري بصرف النظر عن التحولات المستجدة وطرح الرئيس الأمريكي بالحوار مع إيران.
خامسا: سيظل الخطر الإيراني ومن ورائه مليشيات الحوثي قائما – بصرف النظر عن الموقف الأمريكي الجديد - بدليل التهديدات التي أطلقتها المليشيات باستهداف الملاحة الحرية بل واستهدافها بعض السفن المحملة بالنفط في البحر الأحمر ومنعها من دخول ميناء الحديدة، وبالتالى فإن قيام التحالف العربي بإحباط هذه المحاولات الحوثية قد يكون حلا مؤقتا ومرحليا، ويتطلب دعما دوليا لمنع تكرار مثل هذه الحوادث التي ستتزايد في الفترة المقبلة لجس نبض الدول العربية في التعامل واختبارها ميدانيا، وهو ما يجب التحسب له جيدا والاستعداد له من خلال تكتيك استراتيجي وخطة محكمة، وعبر مواقف مسؤولة من الدول الكبرى باعتبار ما يجري يهدد الملاحة البحرية، ويتطلب سياسات حازمة، وليس فقط الرفض أو التنديد بما يجري من قبل إيران ومليشيات الحوثي، خاصة وأن ايران ستسعى بتوطيد علاقاتها مع الدول التي ما تزال تشتري بترولها، وعلى رأسها الهند والاتحاد الأوروبي وتركيا وكوريا الجنوبية واليابان وروسيا، ونشير هنا إلى امتناع الاتحاد الأوروبي عن حظر النفط الإيراني، فيما تقوم الشركات الأوروبية في الوقت الراهن بخفض مشترياتها من البترول الإيراني بشكل أسرع من المتوقع لتخوفها من ردود الفعل الأمريكية في هذا السياق، مع الإدراك بأن الإدارة الأمريكية لن تمضي في أي خيار عسكري مع إيران على اعتبار أن استراتيجية الرئيس ترامب الراهنة تركز على تقليل الخيارات أمام إيران، وليس على أساس ضربها أو مهاجمتها بالفعل بل وإمكانية الانفتاح عليها كما جرى مؤخرا، وهو ما اتضح من التحرك الأمريكي المباشر إزاء إيران في سوريا عبر تفاهمات استراتيجية جديدة مع إسرائيل وسوريا والأردن والإعلان عن دعم التحالف العربي في اليمن، وكذلك إضعاف حزب الله في لبنان بتفعيل استراتيجية وتطوير العقوبات المقرة عليه سلفا.
سادسا: إن السؤال المطروح هل يمكن الضغط على إيران، وإنجاح الخطوات الدولية للضغط على إيران لمراجعة سياستها الراهنة خاصة وأن إيران تخطط للسماح للشركات الخاصة بتصدير البترول الخام من خلال بورصتها للنفط، حيث تعرض إيران نحو 60 ألف برميل عبر الشركات الخاصة؟ إن الإجابة بالتأكيد يمكن الضغط على إيران، وتطويق تحركاتها بهدف الدخول في مرحلة تفاوض نووي جديد وفق إطار جديد ومناخ سياسي مختلف يستطيع التأكيد عليه لدى دوائر الرأي العام الأمريكي، ووفق رؤيته في التعامل مع الحالة الإيرانية بأكمله، وليس وفق الاتفاق النووي حيث يراهن الرئيس ترامب على تحقيق معدلات غير مسبوقة في سعر البترول العالمي بما سيكون له تداعيات إيجابية على الداخل الأمريكي يستطيع من خلاله إقناع الرأي العام والدوائر المعارضة لسياسته في الكونجرس والخارجية بأنه يعمل للصالح الأمريكي، وأنه يمضي وفق حسابات استراتيجية حقيقية لتعلية المصالح الأمريكية، وليست للمصالح الأوروبية، وهو الأمر الذي سيكون له تداعيات مباشرة على نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في ديسمبر المقبل .
إن ما يجري في الممرات البحرية سواء في مضيق باب المندب أو هرمز وصولا للبحر الأحمر ساحة لمواجهة قادمة، خاصة وأن إيران ترتب دائما للخيارات البديلة والساعة التالية للخطة الأمريكية في التعامل مع الوجود الإيراني في الإقليم بأكمله سواء بإمكانية لقاء الرئيسين ترامب وروحاني أو الاكتفاء بالطرح، وليس فقط في مسرح العمليات في اليمن، وإن كان الجانب الأمريكي مطالبا أن يكون حازما ومحددا في التعامل مع الجانب الإيراني مع اتباع استراتيجية استباقية، وعدم الاستمرار في خيارات عامة وسيناريوهات مطولة تعمل على تطويق إيران ومحاصرتها وتضييق مجالات تحركها السياسي والاستراتيجي، وهو أمر يحتاج إلى تعاون دولي في مواجهة التهديدات والمخاطر التي تمثلها إيران وتتطلب سرعة التعامل معها، ووفق استراتيجية شاملة حاسمة، وليست مجرد تبني مواقف أو توجهات مؤقتة قد تدفع بتكرار ما جرى أمريكيا مع الحالة الكورية لتطبيقه على الحالة الإيرانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة