لاستطلاعات الرأي العام دور مهم في قياس المزاج العام للشعوب تجاه ظاهرة مجتمعية معينة.
ويتم الاعتماد عليها في حالات القضايا الحساسة والملامسة لخصوصية الإنسان.
ورغم قصص الفشل في توقع نتائج الاستطلاعات، خاصة خلال الانتخابات الأمريكية الأخيرة، فإنها ما زالت تحظى بجاذبية كبيرة لدى الباحثين ومراكز الدراسات في المجتمعات المتحضرة؛ إذ إن نتائجها تكون سبباً في إعادة تصحيح سلوك بعض الأنظمة تجاه شعوبها، على أساس أن المؤشرات التي حملتها نتائج الاستطلاعات هي تعبير عن اتجاهات الشعوب، وبالتالي على النظام احترام تلك الرغبات وإرادة الشعوب.
وخلال هذا الأسبوع، استعرضت إحدى الصحف الدولية الناطقة باللغة العربية دراسة استقصائية لجامعتين هولنديتين حول رفض الشباب الإيراني النظرة المتشددة التي يفرضها "نظام الملالي" في بلاده، وتفسيره للعلاقات العامة بين مختلف الشعوب من خلال الدين أو الطائفة بشكل أدق. ومع أن الدراسة كانت شاملة لدول منطقة الشرق الأوسط فإن الشباب الإيراني كان في مقدمة الراغبين في التغيير الديني، وهو أمر لا بد أن يكون لافتاً للمراقبين من ناحية الانطباع الذي يعرضه الإعلام الإيراني الرسمي في علاقة الشعب بالدين.
وفي هذه النتيجة تكون السلطة الدينية في إيران ممثلة في المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، أمام لحظة الحقيقة في مسألة استخدام الدين في تفسير العلاقات الدولية والإنسانية، كما يحدث في التعامل مع دول الجوار الجغرافي بتفسير أي خلاف بأنه طائفي أو أيديولوجي بما فيها الهدف من مشروعها النووي أو تصدير الثورة، أو أن أي شيء قادم من خارج إيران فيه شك حول مدى توافقه الديني كما حدث مع اللقاح الأمريكي ضد فيروس كورونا.
الأمر في جزء منه يدق ناقوس الخطر حول مستقبل النظام الإيراني القائم على الشرعية الدينية وعلى مستقبل التدين لدى الشباب الإيراني، خاصة أن الدراسة لاحظت في إحدى نتائجها أن هناك ابتعاداً من الإيرانيين عن تسمية أبنائهم بأسماء شخصيات دينية، وهو تفسير أقرب لأن يكون نوعاً من التمرُّد على رجال الدين ورفضهم مجتمعياً، وبالتالي في اعتقادي أن هذه النتيجة وغيرها مما حمله الاستطلاع لا بد أن تمثل "صدمة" كونها تناقض الصورة العامة والانطباع المرسوم عن الدولة والمجتمع الإيراني.
من الناحية الأكاديمية، هناك تفسيران لهذه النتائج، والتفسيران صحيحان. التفسير الأول: أن النتيجة رائعة وتخدم قناعات نظرية موجودة لدى العديد من الباحثين ودارسي العلوم الاجتماعية حول فرضية أن التشدد أو التطرف لا يولد إلا التطرف والتشدد ولكنه في الطرف المقابل -وعليه تكون النتيجة- أنها أكدت صحة تلك الفرضية.
ففي الوقت الذي يتشدد فيه رجال الدين بعموم التفسيرات يكون المجتمع رافضاً لأفكارهم، حتى وإن لم يعلنوا عنها ولكنهم يعبرون بطريقتهم الخاصة.
التفسير الآخر: أن نتائج الاستطلاعات مسألة عاطفية ومرتبطة بانفعالات الفرد أثناء إجرائها، خاصة عند الإنسان الشرق أوسطي عموماً، وأن النتائج التي تم تسجيلها هذه المرة ربما تتغير في وقت آخر، فمن حيث المنطق الأمر صحيحاً، لكن ما نراه من ردود فعل المواطن الإيراني أو حتى تلك الدول التي تعاني من النفوذ الإيراني، كما العراق ولبنان، نستطيع الجزم بأن هذا الاعتقاد غير صحيح، فالكل يريد التخلص من نظام الملالي الذي يفرض على الناس قيوداً باسم الدين في حين لا يطبقها على نفسه.
ما فعلته نتائج هذه الاستطلاعات أنها جاءت لتؤيد مواقف الشباب الإيراني وكذلك المجتمع الدولي في أن هناك حالة من الانزعاج في سلوكيات نظام الملالي في تفسير كل شيء عقائدياً، باعتبار ذلك أفضل طريقة لإقناع الجماهير بعد أن أدركوا "سيكولوجيات الشعب الإيراني" دون أن يقتنعوا بأنهم تسببوا في الإساءة إلى الدين الإسلامي ومقت كل من يمثلهم.
تحتفل إيران هذه الأيام بمرور 43 عاماً على نجاح ما تسميه الثورة الإسلامية، ولا يزال ملالي إيران يفسرون المتغيرات السياسية والمجتمعية بنفس الطريقة، وكأن الزمن ثابت في مكانه ولا يتغير، ولم يستفيدوا من التجارب التاريخية حتى يعرفوا أن العلاقات الإنسانية تغيرت، والتواصل بين الشعوب صار واسعا، ولكن طريقة تفكيرهم هي التي لا تريد أن تتغير.
لقد زادت تلميحات وسائل التواصل الاجتماعي بأن الإنسان الإيراني غاضب على نظامه السياسي الذي يوظف الدين كقيد على تحركاته، ولا أدري إن كان هذا التلميح هو نوع من الرغبة في العيش الكريم كما يراها لدى الآخرين، أو أنه يعتقد أنه خدع بمبادئ "الثورة"، ولكن على أية حال هو مؤشر خطر على مستقبل ملالي إيران، فمدارك الشعب الإيراني توسعت ولم يعد يقبل كل شيء، وبالتالي مطلوب من الملالي الانتباه لما يحدث من متغيرات على الأرض.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة