قد يكون من الصعب على مقتدى الصدر إنهاء النفوذ الإيراني تماماً في العراق، ولكن من الممكن أن ينجح في بناء حالة من التوازن
أسفرت الانتخابات البرلمانية التي جرت في العراق، مؤخراً، عن خارطة سياسية جديدة، حيث فاز تحالف "سائرون" بقيادة مقتدى الصدر بـ54 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد البرلماني العراقي البالغة 329 مقعداً.
وقد جاء تحالف "الفتح" المدعوم من فصائل الحشد الشعبي في المركز الثاني بحصوله على 47 مقعداً، بينما حل ائتلاف "النصر" بزعامة رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي في المركز الثالث بحصوله على 42 مقعداً.
والمؤكد أن رجل الدين مقتدى الصدر لن يقود الحكومة العراقية الجديدة، ولكنه سيلعب الدور الأبرز في تشكيلها، واضعاً هدفه الرئيسي مكافحة الفساد وإنعاش الاقتصاد والعمل على إعادة بناء العراق بعد سنوات طويلة من الحروب والأزمات والتهديدات الاستراتيجية الوجودية لهذا البلد الشقيق، حيث تأتي هذه الانتخابات عقب الإعلان عن دحر تنظيم "داعش" الإرهابي في العراق خلال شهر ديسمبر الماضي.
التحدي الأبرز للسيد مقتدى الصدر يتمثل في مقدرته على بلورة ائتلاف حكومي قادر على مجابهة النفوذ الإيراني رغم أن أنصار إيران وحلفاءها سيكونون ضمن هذا التشكيل.
مقتدى الصدر رجل دين يحمل هوية العراق الوطنية العربية، ويمتلك رؤية يمكن أن تكون طوق النجاة لاستعادة العراق دوره التاريخي في الإطارين الإقليمي والدولي، لا سيما أن الصدر قد أكد مع إعلان فوز تحالفه وأثناء استقبال سفراء دول عربية مجاورة، شعاراً أساسياً يقوم على أن "دول الجوار أصدقاء لا أعداء".
تحالف "سائرون" الذي يقوده الصدر ليس تحالفاً دينياً أيديولوجياً كما قد يعتقد البعض، بل يضم ستة تكتلات تضم في غالبيتها شخصيات محسوبة على التيار العلماني، وتضم أطيافا سياسية مختلفة من بينها ممثلون للحزب الشيوعي العراقي.
وقد عكست الانتخابات غضب الشارع العراقي من فشل حكومة حيدر العبادي، ما وفّر فرصة لحملة تحالف مقتدى الصدر لاستقطاب دعم الناخبين عبر شعارات مكافحة الفساد وتحسين الخدمات العامة.
تحديات ضخمة تواجه أي حكومة عراقية مقبلة، منها إعادة بناء العراق، الذي تشير التقديرات إلى أنه يحتاج إلى نحو مائة مليار دولار لإصلاح البنية التحتية، وإنهاء مشهد الدمار في المدن العراقية التي عانت من الحروب وتفشي الإرهاب خلال السنوات الأخيرة، فضلاً عن مهمة عودة النازحين الذين يقدر عددهم بنحو مليوني عراقي.
هناك أيضا مهمة بناء العلاقات الخارجية للدولة العراقية في ظل التدخلات الإيرانية التي توسعت بشكل هائل خلال السنوات الأخيرة، ومن ثم فإن التحدي الأبرز للسيد مقتدى الصدر يتمثل في مقدرته على بلورة ائتلاف حكومي قادر على مجابهة النفوذ الإيراني رغم أن أنصار إيران وحلفاءها سيكونون ضمن هذا التشكيل!
السؤال الآن: هل تستطيع أي حكومة عراقية مقبلة تضم رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي ووزير النقل هادي العامري رئيس تحالف "الفتح" الذي جاء في المرتبة الثانية انتخابياً، ومعه الجناح السياسي لفصائل الحشد الشعبي، هل تستطيع هذه الحكومة الوقوف بوجه المد الإيراني، الذي يستخدم أراضي العراق معبراً لسوريا والوصول إلى شواطئ المتوسط؟.
الشواهد تؤكد أن مقتدى الصدر يمتلك رؤية لإعادة صياغة توجهات العراق الاستراتيجية، انطلاقاً من إعلاء المصالح الوطنية لهذا البلد العربي، وإعادته إلى حاضنته الإقليمية العربية الطبيعية، حيث سبق أن زار الصدر المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات خلال الأشهر الأخيرة، ضمن جولة أشاعت أجواءً من التفاؤل حول مستقبل العراق وعلاقاته العربية، لا سيما أن هذا الزعيم العراقي لديه رؤية وطنية ترفض المد الإيراني في العراق، وتتمسك بهوية العراق العربية ويصر على استقلالية قرار هذا البلد العريق، وضرورة مد أواصر التعاون بين بغداد وعواصم دول الجوار العربية الرئيسية. وبالتالي فإن بإمكانه لعب دور حيوي مؤثر في استعادة وجه العراق الحقيقي ونزع فتيل الفتن المذهبية التي نشرها النظام الإيراني في المنطقة خلال السنوات الماضية.
قد يكون من الصعب على مقتدى الصدر إنهاء النفوذ الإيراني تماماً في العراق، ولكن من الممكن أن ينجح في بناء حالة من التوازن في العلاقات الخارجية مع إيران من ناحية ومع دول مجلس التعاون من ناحية ثانية، وبما يليق بحجم العراق ومكانته ودوره الإقليمي والدولي.
الواقعية تقتضي القول إن التغيير الجذري لن يتحقق بين عشية وضحاها في السياسة العراقية، ولكن طالما أن الانتخابات التي تعبر عن إرادة الشعب العراقي قد أنتجت واقعاً سياسياً جديداً، فإن من الضروري أن تترجم رسالة الشعب العراقي من خلال سياسات وتوجهات الحكومة الجديدة، بحيث يقود العراق تحالف سياسي قادر على تحقيق مصالح العراق والعراقيين لا خدمة أجندات إيران في المنطقة.
والعراق كبلد عربي عريق يمتلك من الكوادر والكفاءات الوطنية ما يفتح المجال لإصلاح المسار واستعادة مكانة العراق بعيداً عن الطائفية والنعرات المذهبية والأجندات الطائفية الأجنبية المناوئة للشعوب العربية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة