ثمة تساؤلات عن فترة توقف الاحتجاجات الشعبية، فالانسحاب من ساحات الاعتصام جاء بعد اتفاق مع الناشطين على إيقاف كل المظاهرات
هل دخلت انتفاضة تشرين أو احتجاجات أكتوبر في غرفة العناية الفائقة في ظل ظروف انتشار كورونا؟ وهل جاء كورونا لينقذ الأحزاب السياسية والمليشيات العراقية المتخبطة من نهايتها المحتومة؟
وهل جاء مفهوم "خليك بالبيت" للتخلص من وباء كورونا أم للتخلص من الانتفاضة الشعبية؟ هذه الانتفاضة العفوية التي اندلعت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وقدمت آلاف الشهداء والجرحى والمعطوبين والمغيبين والمخطوفين من أجل إصلاح النظام السياسي وتوفير الخدمات الأساسية.
وهي ليست الأولى، فقد سبقتها في الأعوام الماضية انتفاضات واحتجاجات أخرى لكن انتفاضة "تشرين" هي الأكثر وعياً وانتشاراً في تمثيل كل فئات المجتمع العراقي؛ فقد عملت على زعزعة نظام المحاصصة الطائفية، وأحدثت تحولاً كبيراً في الوعي العراقي، ولم تتوقف لولا ظهور وباء كورونا الذي تطلّب منع التجمعات واللقاءات البشرية، باعتبارها بيئة خصبة لانتشار هذا الفيروس الخطير.
واستجاب المحتجون لقرارات الحكومة ونداءات العالم في إنهاء مظاهراتهم، انطلاقاً من مبدأ الوعي والالتزام في الحد من انتشار هذا الوباء. لكن هذا الأمر سرعان ما تحول إلى مناسبة لإنهاء هذه الاحتجاجات، ووضع حد لها، لكي تنعّم الطبقة السياسية العراقية بمزيد من المصالح والامتيازات على حساب معاناة العراقيين ولا يهمها بأي طريقة، حتى بسبب كورونا، أو لأسباب أخرى.
فرض منع التجوّل يعني إلغاء المظاهرات والتجمُّعات، إلا أن قوافل الزوار إلى الإمام موسى الكاظم، أحد أئمة الشيعة، لم يتم منعها، رغم نشر الجيش لمواجهة فيروس كورونا
وهي غير جادة في إيجاد حل واضح للأزمة، بل تضع رأسا في الرمال لكي لا ترى ما يعانيه العراقيون من شظف العيش، وتضع "الفيتو" لكل مرشح ينادي بالحل الوطني، بعيداً عن المحاصصة الطائفية لإنهاء الأزمة.
إن فرض منع التجوّل يعني إلغاء المظاهرات والتجمُّعات، إلا أن قوافل الزوار إلى الإمام موسى الكاظم، أحد أئمة الشيعة، لم يتم منعها، رغم نشر الجيش لمواجهة فيروس كورونا. لذا تزامن ظهور مرض كورونا مع الاحتجاجات الشعبية كان بمثابة ضربة قاسية لها، في ساحة التحرير ببغداد، وفي محافظات الجنوب الثائرة، مع استمرار الحكومة بتقييد حرية التجمُّع والتظاهر، ومع ازدياد إصابات كورونا، تصبح الأجواء استثنائية بكل المقاييس. وهناك من يفكر بأن تقبّل فكرة البقاء في البيت بسبب فيروس كورونا، هي طريقة للقضاء على الانتفاضة لا أكثر، ولإنهاء المسيرات والحشود والفعاليات التي استمرت على مدى أكثر من خمسة أشهر من دون انقطاع، والتي لم تثنها كل وسائل العنف والرصاص الحي، بالمضي نحو تحقيق أهدافها، لكن شاءت الصدف أن يتحالف كورونا مع الطبقة السياسية العراقية من أجل إنقاذها، ولكن إلى متى؟
ثمة تساؤلات عن فترة توقف الاحتجاجات الشعبية، فالانسحاب من ساحات الاعتصام جاء بعد اتفاق مع الناشطين على إيقاف كل المظاهرات والمسيرات بسبب كورونا، والمخاوف من حدوث كارثة صحية في بلد يفتقر إلى أبسط الاحتياجات الطبية.
ورغم كل المخاوف من انتشار الفيروس، فإن عدداً قليلاً من المعتصمين لا يزال مصراً على البقاء في خيم الاعتصام، تحديداً في ساحتي التحرير، وسط بغداد، والحبوبي في الناصرية، ولو بشكل رمزي، خشية استغلال الحكومة هذه الذريعة للسيطرة عليهما، ومحاولة إنهاء المظاهرات الاحتجاجية، والنيل من أحلام التغيير التي تداعبُ أذهان المتظاهرين السلميين الشباب الذين ضحوا من أجل أهدافها النبيلة.
وقد أثبت الشباب المحتجون أنهم على قدر كافٍ من الوعي السياسي، يتجاوز ذهنية الطبقة السياسية التي تغرق في بحر من التناقضات والانشقاقات في البيت الواحد بل في الطائفة الواحدة، ولم تنجح في إخراج البلاد من هذه الأزمة في الوقت الذي يكافح فيه المواطنون البسطاء وباء كورونا، وتأثيراته السلبية على حياتهم ومعيشتهم خصوصا أصحاب الأجور اليومية. ولا تزال الأحزاب والكتل والتحالفات تتصارع فيما بينها لاختيار مرشحها الذي يضمن لها مصالحها الضيقة القائمة على المحاصصة الطائفية.
إن عودة المحتجين إلى الساحات باتت أمراً حتمياً أكثر من أي وقت مضى، لأن أزمة الطبقة السياسية تتفاقم يوماً بعد آخر، وهي عاجزة عن إصلاح النظام القائم منذ بداية الاحتلال الأمريكي وحتى الوقت الحاضر.
وهذا يعني أن الانتفاضة الشعبية ستعود بشكل أقوى إلى الشارع العراقي، بل وستخرج من إطار الإصلاح إلى رفع شعار: إسقاط السلطة. ولا ينفع معها لا كورونا ولا قوة السلاح ولا عمليات الخطف والتعذيب، ولا غيرها من الأساليب الوحشية في إنهاء أحلام منتفضي تشرين ـــ أكتوبر، الذين لم يقدموا أي تنازل، لكنهم تجاوبوا مع النداءات المحلية والعالمية من أجل الحد من انتشار فيروس كورونا من أجل مصلحة الجميع. فقد حقق المحتجون أهدافهم، حتى إن توفقوا لفترة في الوقت الحاضر، في تجاوز مفهوم المحاصصة الطائفية، وفضح أساليب القمع الوحشي، وترسيخ التكاتف الاجتماعي بين العراقيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة