لا يمكن لهذا الوباء القاتل أن يكبح جماح انتفاضهم، كما لم يكبحها القناص والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع، والطائفية أخطرها.
المشكلة القائمة بين المتظاهرين السلميين والحكومة العراقية تكمن في عجز اللغة عن التخاطب والجدل، ومن ثم التفاهم، كأن صرخات المتظاهرين تصطدم بأسوار المنطقة الخضراء وترتد.
عالمان لا يتبادلان الأفكار، الحكّام خلقوا عالمهم الأثير، المتنعّم، والمتظاهرون في خيم ساحة التحرير، قبل أن يشتتهم وباء الكورونا، ويجبرهم على العودة إلى بيوتهم التي أقسموا ألا يعودوا إليها إلا بعد تحقيق أحلامهم.
لو توفرت العقلانية في التواصل عند السياسيين لما كان الضحايا بالآلاف. هل تتوقف الانتفاضة العراقية في ظل عاصفة كورونا؟ والواقع العراقي يراوح في مكانه، بدون إصلاحات أو النيّة في دراسة الأزمة.
المتظاهرون منخرطون في التفاعل مع الآخرين، فقد قطعوا أشواطاً بعيدة حتى تعاطفت الدول الكبرى معهم. هل هذا التفاعل موجود عند السياسيين العراقيين؟ ولو توفر ذلك لماذا تركوا الأمر للقوات الأمنية. هناك حلول أخرى غير الرصاص الحيّ والغاز المسيل للدموع وغيرها من آلات القتل؟ إن العجز في الواصل بين طرفين متناقضين هو تجسد لبنية المجتمع العراقي وتاريخه الحافل بالعنف.
ومع ما عاناه المتظاهرون وجدوا أنفسهم في الساحة البديلة، في مواقع التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي يجد السياسيون أنفسهم في التقوقع حول أنفسهم. المحتجون لا ينتهون داخل جدران بيوتهم، لأن عقولهم مستيقظة، عين نائمة وعين أخرى على الشارع، رغم أنه خالٍ بسبب كورونا الذي أراده أن يكون خالياً، ولا عقول السياسيين استجابت لمطالبهم.
هذه السلطة اهتز عرشها، واستقال رئيس وزرائها، ولا يزال المرشحون لهذه الوظيفة ينظرون بحذر إلى المتظاهرين ونبضّ حياتهم؟ حاول المترشحون لهذا المنصب أن يخلقوا ولو ظاهرياً لغة مع المتظاهرين عبر خطبهم، ولكن الأحزاب الدينية هي التي توافق على هذا المرشح أو ذاك عبر تمثيلاتها البرلمانية.
إن الانتقال من الفكر الخراقي إلى العقلاني هو جوهر المشكلة، لأنه يقرر حداثة الحكم وآلياته المعاصرة، وهذا غير متوفر، في استعارة الحكومة للنظام البرلماني الغربي، لكنها غلفته ببرقع طائفي، ولا يوجد لدينا سوى هيكل فارغ، مُحاط بأسوار المنطقة الخضراء. يتساءل البعض بنوع من القلق: هل وباء الكورونا حليف للمتظاهرين أم للحكومة؟ ثمة أوهام أسطورية تتعلق بالفكر الخرافي في طرح هذا السؤال.
لا يمكن لهذا الوباء القاتل أن يكبح جماح انتفاضهم، كما لم يكبحها القناص والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع، والطائفية أخطرها.
على أية حال، تفنن السياسيون في ابتكار الأسلحة وفنونها في حق المتظاهرين، لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بحقوقهم المشروعة، ووصل الأمر إلى الذخيرة الحيّة والرصاص المطاط، والماء الحار، والغاز، والهراوات والسكاكين، لكنهم عجزوا عن تفريقهم. الرصاص من أمامكم والكورونا من ورائكم. طان أن يصرخ طارق بن زياد لو كان حاضرًا.
رغم الهلع الذي أحدثه كورونا بين صفوف المتظاهرين، فإنهم لم يفكروا بالتخلي عن حقوقهم، وفي بادئ الأمر، تحدوا هذا الشبح غير المرئي، بعفوية وواصلوا التظاهر لأيام، وحث بعضهم بعضا على ارتداء الكمامات للوقاية من الإصابة بفيروس كورونا، عبر هاشتاق #الكمامة_موعيب. لكن كورونا قطع التواصل وأصاب اللغة بالعجز. وتراجع الطرفان إلى مواقعهما، أسوار المنطقة الخضراء وجدران بيوت المتظاهرين.
لا يمكن لهذا الوباء القاتل أن يكبح جماح انتفاضهم، كما لم يكبحها القناص والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع، والطائفية أخطرها. وفكرت النخبة من المتظاهرين: هل تعوّض شاشات وسائل التواصل الاجتماعي ساحات التظاهر؟ وهل يمكن لحلم المتظاهرين أن يطير على أجنحة تغريدات تويتر؟ نظّم حملة الشهادات العليا مؤخراً حملة جماعية للمطالبة بحقوقهم عبر موقع تويتر وأجنحة وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، خمسون ألف تغريدة لتعبّر عن كلمة واحدة: العدالة. وتوالت بعدها شعارات المغردين على تويتر والفيسبوك.
من المعلوم أن الثورة تكمنُ في الأرواح وليس في الأجساد، لا يكبحها حتى فيروس كورونا لأن إرادة الإنسان أقوى، والمتظاهرون يتسلحون بالوعي، في التكيّف مع الكورونا والعوالم الافتراضية. هل يطيح الخطر غير المرئي بالانتفاضة؟ وهل ستتحول ساحة التحرير إلى شاشة افتراضية نرى عليها المتظاهرين المحجورين داخل جدران بيوتهم يطالبون بحقوقهم؟ هل يقتحم كورونا أسوار المنطقة الخضراء؟ سارعت الحكومة إلى فرض حظر التجول العام، وارتاحت من وجع رأس المتظاهرين الذين أسقطوا رئيس وزرائها وحولوه إلى مصرّف للأعمال. إنها القوة الخفيّة التي يمتلكها المتظاهرون في التعبير عن إرادتهم.
كان من الممكن حل جميع هذه المشاكل لو تم الاستعانة بنظرية التواصل ولا سيما في التفاعل اللغوي المعدوم حالياً بين الطرفين. منتفضو ساحة التحرير وجدوا ساحتهم افتراضية لتكون منبراً لهم، هكذا تكيفوا مع شكل الإعلام الجديد، والوباء الجديد، فيما تهدّد الحكومة بين الحين والآخر، بإيقاف هذا العالم الافتراضي الحلم بضغطة زر، وقد فعلت ذلك في السابق.
لكن المعادلة يمكن أن تتغيّر، وتتحول الظروف إلى صالح المتظاهرين لأن الحكومة تعاني من الفراغ، وهبوط أسعار البترول، وازدياد الإصابات بالكورونا، والمشكلة مع الأكراد. هكذا تتعقد العلاقة بين المتظاهرين والحكومة، ويتحوّل الوباء إلى شكل من أشكال القمع الذي يُمارس بحق المتظاهرين، والقتل بذاته هو شكل من أشكال الكورونا. وفي كل مرة، يتعرض فيها المتظاهرون إلى العنف يطلقون "هاشتاقات" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبين الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من أجل الضغط على الحكومة العراقية من أجل الالتزام بالمواثيق الدولية.
تعجز اللغة مع كورونا، ولا حل يلوح في الأفق، لأن الأرضية المشتركة في اللغة والتواصل والعقلانية، لا تزال مفقودة وغائبة في سماء العراق في الوقت الحاضر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة