خبراء يوضحون موقف لبنان من صندوق النقد الدولي
مؤشرات الاقتصاد المأزوم تقود لبنان صوب هذا السيناريو، وسط انقسام داخلي معتاد بين الأطراف الفاعلة
طرح إعلان الحكومة اللبنارية أمس عن عدم دفع سندات اليوروبوند المستحقة غدا الإثنين 9 مارس/آذار بقيمة 1.2 مليار دولار، سيناريو للجوء إلى صندوق النقد الدولي بشكل أكثر قوة، للحصول على مساعدات مالية لإنقاذ البلاد من الانهيار المالي.
وفي خطابٍ رسمي أكد حسان دياب، رئيس الوزراء اللبناني، أن الدين أصبح أكبر من أن يتحملّه لبنان وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد الفوائد، لذا قررت الحكومة الدخول في مفاوضات منصفة مع الدائنين، وإعادة هيكلة الدين العام بما يناسب مصلحة لبنان الوطنية.
لجوء لبنان لصندوق النقد ليس بجديد
يتشابه الأسلوب الحالي الذي تعاملت به الحكومة اللبنانية في ملف التعاون مع صندوق النقد الدولي لمواجهة عثرتها الاقتصادية الحالية مع الطريقة ذاتها التي انتهجتها في عام 2007، حين حصل لبنان على تمويل من الصندوق لإعادة بناء البنية التحتية المتضررة جراء الحرب التي شنتها إسرائيل على البلاد آنذاك.
فقد شهد فبراير/شباط الماضي إعلان لبنان الاتفاق مع صندوق النقد على تقديم المشورة الفني لصياغة خطة إصلاح اقتصادي، دون التطرق لأية مساعدات مالية، وهو موقف شبيه بما حدث قبل 13 عاما حين كان الاتفاق مع الصندوق على إعداد خطة هيكلة اقتصادية، بهدف تسويقها بين المؤسسات المالية الدولية لتمويل إصلاحات البنية التحتية، ولكن حينها رهن المانحون تقديم وقروض بقيمة 7.6 مليار دولار بمشاركة النقد الدولي في المبادرة.
وفي ضوء ذلك أعلن صندوق النقد الدولي في أبريل/نيسان 2007 تقديم مساعدات عاجلة إلى لبنان بقيمة 77 مليون دولار، ضمن جهد دولي منسق لتقديم المساعدة للبنان.
وضع اقتصادي متأزم
المختلف بين الموقفين الماضي والحالي هو أن الوضع الاقتصادي اللبناني بات أكثر تأزما، فبعد ما كان يقتصر الدين العام على 40 مليار دولار في عام 2006 فقد بلغ الدين الآن 89.5 مليار دولار، يعادل نحو 155% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية 2019، مع نحو 37% من الدين بالعملة الأجنبية، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي.
وارتفع الآن التضخم إلى أكثر من 30% مع انخفاض قيمة الليرة بنسبة 40% منذ أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما دفع مصرف لبنان المركزي إلى إخطار متعاملي الصرف الأجنبي بألا يشتروا العملات الأجنبية بأسعار تزيد أكثر من 30% فوق الأسعار المحددة.
كما قدر رئيس الوزراء حسان دياب نسبة المهددين بالفقر من اللبنانيين بـ40%، في ظلّ واحدة من أشدّ الأزمات التي مر بها لبنان نتيجة الاحتجاجات الشعبية.
وعلى جانب آخر، سارعت مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية بإعادة نظرتها للاقتصاد اللبناني، إذ خفضت ستاندرد آند بورز تصنيف لبنان في فبراير/شباط الماضي إلى cc/c من CCC/C مع نظرة مستقبلية سلبية.
وكذلك خفضت مؤسسة التصنيف الدولية موديز تصنيف حكومة لبنان إلى CA من CAA2، والنظرة المستقبلية إلى مستقرة، مؤكدة أن التصنيف ينسجم مع توقعات بأن يتكبد الدائنون من القطاع الخاص خسائر كبيرة في أي إعادة هيكلة للدين.
وقبل ذلك في ديسمبر/كانون الأول 2019 خفضت وكالة فيتش التصنيف الائتماني للبلاد CC من CCC، نتيجة الضبابية السياسية الشديدة والقيود المفروضة عمليا على حركة رؤوس الأموال وتضرر الثقة في القطاع المصرفي.
موقف صندوق النقد
هذا التدهور الشديد الذي ضرب لبنان منذ الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 فتح المجال أمام تدخل صندوق النقد الدولي لإرسال بعثة فنية الشهر الماضي، بناءً على طلب الحكومة اللبنانية لتقديم مشورة فنية حول الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية، وهي المشاورات التي اعتبرها جيري رايس المتحدث باسم الصندوق في بيان رسمي بأنها "قيمة ومثمرة".
ولكن المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا لم تخفِ، في مقابلة مع تلفزيون "بلومبيرغ"، بأن التعاون يُمكن أن يأخذ منحى آخر بالنظر في تقديم مساعدات مالية إلى لبنان، إذ كان هناك جدية في النهج الذي تتبعه الحكومة.
وما يدعم سيناريو إبرام اتفاق مالي وشيك بين لبنان والصندوق هو تأكيد دبلوماسيين أوروبيين لـ"رويترز" بأن أي تمويل غربي طارئ للبنان لن يكون إلا في إطار برنامج من صندوق النقد، ولكن يجب أن يكون القرار لبنانيا.
وقالوا إن المسؤولين اللبنانيين يواجهون صعوبة كبيرة في إقناع المانحين، الذين ضخوا في السابق مساعدات بمليارات الدولارات، بتصديق استعدادهم لتطبيق خطة الإصلاح بأنفسهم.
ويأتي الموقف الأوروبي بعد أن علًق مانحون أوروبيون بقيادة فرنسا، التي سبق أن قادت جهودا سابقة للتأكد من قدرة لبنان على السداد واستقراره، حزمة قروض بقيمة 11 مليار دولار للبنية التحتية جرى الاتفاق عليها في 2018 بسبب غياب جهود جادة لإصلاح الاقتصاد.
انقسام داخلي حول مساعدات الصندوق
وفي خضم هذا الموقف المأزوم كعادتهم اختلفت الأطراف الفاعلة في المشهد اللبناني حول التعاون المالي مع صندوق النقد الدولي، حيث تعارض جماعة حزب الله وجود برنامج إصلاح يدعمه صندوق النقد الدولي.
وقال حسن فضل الله عضو النائب البرلماني اللبناني عن حزب الله، لرويترز، إن حزب الله لا يعارض صندوق النقد الدولي كمؤسسة، لكنه يعارض نوعية الشروط التي يفرضها على البلدان، معتبرا أن هذه الشروط ستؤدي إلى ثورة شعبية.
وعلى الجانب الآخر، نقلت رويترز عن مصادر مطلعة بأن مسؤولين بالحكومة اللبنانية يعتقدون أن تقديم خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي هي الحل الأكثر منطقية لأزمة لبنان الاقتصادية، لكن لتنفيذ برنامج إنقاذ مثل هذا سيكون على الحكومة الجديدة التغلب على اعتراضات من حزب الله، وكذلك المسيحيين والشيعة، الذين يساورهم القلق حيال الإجراءات التقشفية التي ستنطوي عليها خطة الإنقاذ.
هذا الانقسام، عبر عنه الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، قائلا لرويترز "إنه يتعين على لبنان التعاون مع صندوق النقد الدولي لتدبير مساعدة دولية ضرورية بشدة عبر برنامج مشترك، مع السبيل الوحيد لضمان الدعم المالي للبنان.
وعلى صعيد آراء الخبراء، أكد ناصر سعيدي، وزير الاقتصاد السابق ونائب حاكم المصرف المركزي سابقا، أن الاقتصاد سيحتاج إلى 30 مليار دولار و25 مليار دولار إضافية لإعادة رسملة النظام المصرفي.
وأضاف أن لبنان في حاجة إلى سيولة خارجية ليس فقط من أجل ميزان المدفوعات، وإنما أيضا للحكومة، لذا فإن الحزمة الخارجية وبرنامج الإصلاح من صندوق النقد الدولي، الذي يأتي مع جميع الإصلاحات المرتبطة به والتي نحتاجها، في غاية الضرورة، حسب رويترز.
وكذلك قال توفيق غاسبار، خبير اقتصادي سابق للحكومة والمصرف المركزي، إن صندوق النقد الدولي يفتح أبواب المساعدة الدولية، ولا مفر من برنامج من الصندوق.
روشتة الإصلاح الاقتصادي
عبرت مؤسسات دولية عن رؤيتها لملامح الإصلاحات الاقتصادية التي يحتاج إليها لبنان، وهو ما لخصها فريد بلحاج نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال حديثه لتلفزيون "بلومبرج" في 5 محاور، تشمل إصلاح قطاع الكهرباء وتحرير قطاع الاتصالات وإصلاح التعليم وبناء شبكة تغطية اجتماعية.
والمحور الخامس الذي حدده بلحاج يتفق مع مطالب الاحتجاجات الشعبية، ألا وهو بناء نموذج حكم جديد أقل فسادا وأكثر شفافية من النظام القائم منذ سنوات.
وبحسب حديث سابق لمصادر مطلعة لصحيفة الأخبار اللبنانية، فإن بنود الإصلاح الاقتصادي قد تشمل إعادة النظر في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، والأزمات التي تواجه القطاع المصرفي وآليات معالجاتها.
وهو ما يتفق مع التقرير الأخير للبعثة الرابعة الأخيرة لصندوق النقد الدولي منذ عدة أشهر، والذي أشار إلى أن قيمة الليرة مقابل الدولار متضخّمة بنحو 60%، فضلاً عن تقديم اقتراحات بزيادة القيمة المضافة، وإلغاء مجوعة من الإعفاءات الممنوحة للسلع الأساسية والغذائية.
ومن المتوقع أن يدعم الحكومة اللبنانية في أية مفاوضات مستقبلية مع صندوق النقد الدولي، بنك الاستثمار الأمريكي لازارد ومكتب المحاماة كليري جوتليب ستين اند هاملتون، اللذان عينتهما لبنان الشهر الماضي لتقديم المشورة حول برنامج الإصلاح الاقتصادي.
الشارع اللبناني يتفاعل
من جهته قال الدكتور عبدالمنعم السيد، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، إن لبنان أحد الدول العربية المهمة التي تمر بأزمة مالية حقيقية منذ أكثر من 8 سنوات، مما تسبب في المظاهرات اللبنانية التي بدأت أكتوبر الماضي، وكان سببها الرئيسي زيادة الضرائب وانخفاض قيمة العملة المحلية.
وأضاف "عبدالمنعم" أنه بمراجعة الأرقام المتعلقة بالاقتصاد اللبناني سنجد أن التصنيف الائتماني للدولة اللبنانية أصبح "-cc"، كما تجاوز حجم الدين الداخلي 152% من حجم الناتج القومي الإجمالي، أي أن الدين الداخلي يزيد على الإنتاج بمرة ونصف.
وأشار إلي أن الدين الداخلي يقدر بـ86 مليار دولار، وهي زيادة كبيرة على الدين في عام 2007 الذي قدر وقتها بـ40 مليار دولار، أي أنه تضاعف بحوالي مرتين خلال أقل من 13 عاما، و"قد أجج من الأزمة زيادة معدلات البطالة التي تجاوزت أكثر من 22%، بينما تجاوز التضخم حاجز 45%".
ولفت إلى أن فرض ضريبة علي السوشيال ميديا وضرائب أخرى مبالغ فيها على التسويق الإلكتروني حرك الشعب ضد الحكومة والسلطة اللبنانية، وربما حدث ذلك أيضا بسبب تعرض الاقتصاد اللبناني لأزمات متعددة، بالإضافة إلى عدم وجود سياسات إصلاح اقتصادي طوال العشرين عاما الماضية.
وذكر أنه على الرغم من أن لبنان بلد قليل التعداد السكاني إلا أنه لم يستغل موارده بالشكل الأمثل، ومن الأسباب الرئيسية للأزمة المالية في عدم اعتماد الاقتصاد على الصناعة، والاعتماد في المقام الأول على السياحة ثم على القطاع الزراعي، وما يشمله من إنتاج مواد عطرية وتجميلية، مما أدى إلى انخفاض معدلات التشغيل.
وأشار إلى انخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية الواردة للبنان خلال العامين الماضيين بنسبة 30%، و"كان لهذا الانخفاض آثاره السلبية على المواطن اللبناني بشكل كبير".
وذكر أنه على الدولة اللبنانية في الفترة المقبلة إعادة صياغة السياسات المالية والاقتصادية، ووضع خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي، تبدأ بالإصلاح الضريبي والعمل على تخفيضها، ليشعر المواطن اللبناني بالتحسن.
وتابع أن النقطة الثالثة التي يجب أن تعمل عليها الحكومة عقد اتفاقات مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي، لأخذ تمويلات وقروض لتيسير حركة الدولة خلال السنوات المقبلة وبدء مشروعات، فالدولة اللبنانية ينقصها وجود سياسات مالية وضريبية واقتصادية واضحة، حيث يجب تخفيض شرائح الضرائب لرفع الضغط عن المواطن اللبناني، وفي الوقت نفسه تجذب المستثمرين.
كما يجب تقليص عجز الموازنة اللبنانية الذي وصل إلى حدود غير مسبوقة بنسب تجاوزت 40%، وهو ما يعرض لبنان لإشهار إفلاسها خلال سنوات قليلة، وهو ما لا يليق بدولة بحجم لبنان ولا بالمواطن اللبناني.