الشبكة المالية لتنظيم داعش.. مليارات سرية متحركة حول العالم
تنظيم داعش الإرهابي استطاع عبر شبكة مالية أن يتميز على جميع تقاطعات الجماعات المتطرفة العنيفة بتنويع مصادر تمويله.
تشكل شبكة داعش المالية، أحد أهم مصادر قوته التي لا تزال تساعده على التعايش والبقاء والاستمرار على الرغم من انهيار جغرافية التنظيم المزعومة.
وعبر هذه الشبكة المالية، استطاع تنظيم داعش الإرهابي أن يتميز على جميع تقاطعات الجماعات المتطرفة العنيفة بتنويع مصادر تمويله، أثناء استيلائه على أراض عدة دول، ثم الاستفادة منها في عملياته الحالية بعد انهيارها.
ليس هذا فحسب بل إن التنظيم الإرهابي استحدث مصادر جديدة للتمويل تعتمد بشكل أساسي على معطيات نفوذه المتنوعة داخل بعض المناطق التي ما زال يتمتع فيها بسيطرة كبيرة خاصة في بنجلاديش والعراق والصومال والفلبين وغرب وشمال أفريقيا ووسط آسيا.
وقد أعطى التنوع المالي مرونة واسعة للتنظيم الإرهابي في تحقيق بعضٍ من الاكتفاء الذاتي، الذي ساعده على الاستمرار في القتال وتمويل عملياته الإرهابية ومقاومة الجهود الدولية التي تحول عرقلة وتعقب مصادره المالية وفرض عقوبات على الأفراد والكيانات التي تتورط في تقديم تسهيلات مالية له واتخاذ إجراءات قانونية حيالهم بوضعهم على قوائم العقوبات الجنائية الدولية.
هذا وتعتمد الشبكة المالية لتنظيم داعش الإرهابي على الاستفادة من الوفرة المالية التي تحققت له من مصادره الاقتصادية خلال فترة سيطرته على أجزاء واسعة من العراق وسوريا بين عامي 2014 و2017، وإعادة تدويرها خلال فترة الانهيارات المتتالية لمعاقله خلال عامي 2017 و2018؛ بل استحدث موارد جديدة من خلال عدد من الآليات التقليدية وغير التقليدية والتي مكنته من الحفاظ على بقائه واستمرار قدرته على إحداث حالة تهديد للأمن والسلم العالمي.
ولعل هذا الأمر هو ما يدفعنا إلى التساؤل حول قدرات التنظيم المالية وكيفية استفادته من مصادر تمويله المؤسسي لبنيته المالية قبل جغرافية التنظيم وبعدها، وكذلك الشبكة الاقتصادية المستحدثة الممولة للعنف الداعشي حالياً بعد انهياره والسيناريوهات المستقبلية للشبكة المالية العنكبوتية للدواعش ومدى قدرتهم على الاستمرار لفترات أطول في القتال والمواجهة.
أولاً: مصادر التمويل المؤسسة للبنية المالية لداعش قبل وبعد انهياره:
اعتمد تنظيم داعش في بداياته على مصادر تمويل تقليدية شكلت البنية المؤسسة لشبكته المالية، والتي تركزت بشكل أساسي على أموال الصدقات والتبرعات والزكاة؛ حيث عملت المنابر والقنوات الإعلامية الموالية له، خلال أعوام 2011- 2012 – 2013 – 2014 على تشجيع البعض على توجيه أموال الزكاة والتبرعات والصدقات لتأييده في العراق ثم في سوريا، وهي الأموال التي اتجهت بصورة مباشرة إلى دواعش العراق وبلاد الشام.
وقد كشف التقرير السنوي عن الإرهاب في دول العالم لعام 2014، الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية، أن داعش تحصل على تمويل مالي من 31 دولة حول العالم من أبرزها: (باكستان، والجزائر، وتركيا، ولبنان، وغانا، والسودان، وبريطانيا، والسويد، وهولندا، وأستراليا، والسنغال، وتايلاند، وبنجلاديش، وذلك عبر شبكة واسعة من الشركاء المحليين بتلك الدول والذين يسجلون حركة هذه الأموال عبر شركات ومكاتب وأسماء وهمية، تمارس من خلالها أنشطة دعم الإرهاب خلف ستار قانوني وشرعي.
وعقب إعلان خلافته المزعومة في يونيو/حزيران 2014، أوجد التنظيم الإرهابي لنفسه نظاما ماليا معقدا ومتنوعا، بدأ بسيولة مالية بلغت 2 مليار دولار، منها 429 مليون دولار حصل عليها من البنك المركزي في الموصل، و200 مليون دولار من بنوك الموصل الأخرى، بالإضافة إلى كميات كبيرة من السبائك الذهبية قدرت قيمتها بـ400 مليون دولار، و150 مليونًا تم الحصول عليها كـ"فِدًى" عن تحرير الأجانب المختطفين وعلى رأسهم الموظفين الدوليين، والصحفيين الغربيين.
وسرعان ما اتسعت شبكة تمويلات داعش لتتحول إلى مؤسسات اقتصادية كاملة يشرف عليها ويديرها ما أطلق عليه التنظيم (ديوان بيت مال المسلمين)، وهي التسمية الإسلامية التاريخية للمؤسسة المالية، التي أحكمت سيطرتها على الموارد الاقتصادية داخل جغرافية التنظيم الداعشي، واستولت على عوائد الثروات الطبيعية من المعادن والنفط والغاز، والزراعية بعد سيطرته على ما يقارب 40% من الأراضي الزراعية في العراق، بالإضافة إلى الضرائب والرسوم والأموال الحكومية وعائدات المواد الغذائية المصادرة وعوائد غرامات ديوان الحسبة الذي اعتُبر من أغنى الدواوين المالية لدى داعش.
كما شكل ما سُمي بديوان العقارات الذي استحدثه التنظيم مورداً ماليا كبيرا للتنظيم؛ حيث نظم عمليات البيع والشراء للعقارات في المدن والقرى، وكانت تدفع له مبالغ مالية كأجور معاملات، كما أنه كان المسؤول عن جمع الضرائب من المحلات والبيوت ومصادرة البيوت التي تركها أصحابها لصالحه.
وأسهم ما عُرف أيضاً بديوان الركاز المختص بإدارة المنشآت وحقول النفط في العراق وسوريا، في توفير مورد مالي هائل لداعش من خلال تشغيل حقول النفط والغاز، والاستيلاء عليها وإعادة بيعها بشكل غير قانوني عبر وسطاء إلى تركيا وإيران، وفي عام 2014، كشفت وثيقة داعشية عن أن العائدات النفطية للتنظيم تراوحت بين 1 إلى 3 ملايين دولار يومياً.
كما استحدث داعش بديوان الركاز قسماً خاصاً بمعامل الأسمنت، لتزيد موارد التنظيم عبر التجارة فيه والتي قدرها بعض الخبراء، بأنها تدر نحو 200 ألف دولار يومياً، بالإضافة إلى عوائد الموارد والسلع من الأماكن المسيطر عليها من مستشفيات، ومراكز تسوق، ومطاعم، ومرافق الكهرباء والمياه والتي قدرت عوائدها بعشرات الملايين شهرياً.
وشكلت أموال ما، زعم التنظيم الإرهابي أنها "الجزية" المفروضة على غير المسلمين، موردا ماليا يدر ملايين الدولارات شهرياً له، كما أن عمليات النهب للقطع الأثرية من قبل داعش وفرت له مئات الملايين من الدولارات بعد أن تم بيعها وتهريبها للخارج عبر تركيا.
وبالنظر إلى هذه المصادر المالية الهائلة، تمكن التنظيم من خلالها تكوين شبكة اقتصادية معقدة شكلت بنية مالية ساعدته على الاستمرار لأكثر من 4 سنوات داخل الجغرافيا العراقية السورية، ثم التمدد خارجها منذ عام 2017 من خلال كسب ولاءات جديدة حول العالم والاستفادة من إعادة تدوير هذه الأموال في الحفاظ على بقائه وانتشاره مجدداً.
ثانيا: الشبكة الاقتصادية المستنسخة الممولة للعنف الداعشي بعد انهيار جغرافية التنظيم
مع بداية عام 2017، استشعر داعش باقتراب العد التنازلي لانهيار جغرافيته فبدأ في تكوين شبكة مالية مستنسخة من نظامه المالي السابق لكنها تتميز بالقدرة التشغيلية للأموال السائلة، التي حصل عليها من موارده السابقة، والتي أعاد تدويرها في تعاملات مالية متنوعة حققت له إيرادات منتظمة خلال عامي 2018 و2019، واستخدمها في تمويل أنشطة إرهابية متنوعة وفق معطيات جديدة ساعدته على الاكتفاء والاستمرار في القتال والمواجهة والحفاظ على أوضاعه التي اكتسبها داخل المنظومة الإرهابية العالمية.
ونجح التنظيم الإرهابي أيضاً في إيجاد موارد مالية متنوعة في مناطقه الجديدة، وخاصة في دول الغرب الأفريقي من خلال سيطرته على طرق التجارة وفرض الإتاوات على مهربي السلع والمخدرات والأسلحة وتجار البشر، والاستيلاء على المراعي من الحكومات وتقديمها كمراعٍ آمنة للرعاة مقابل المال.
وبذلك يكون داعش قد أمن لعناصره الموارد المالية المستقبلية من خلال تدوير موارده القديمة واستحداث أخرى جديدة عبر إدارة واحدة يقودها رأس التنظيم وما يُعرف بـ"مجلسه العسكري والشرعي"، ويمكن تحديد مسارات هذه الشبكة الاقتصادية الممولة للعنف الداعشي بعد انهيار التنظيم، والتي أمنت له العودة حاليا وربما الاستمرار مستقبلاً، فيما يلي:
-غسيل الأموال من خلال الاستثمار في أعمال مشروعة بالعراق وسوريا، والتي تم اكتشاف بعضها بعد عدة مداهمات أمنية على شركات مصرفية في بغداد وأربيل، كانت تقوم باستثمار ملايين الدولارات من عائدات الدواعش في شركات عقارية وفنادق وتوكيلات سيارات.
- المنظمات الخيرية التي لا يزال التنظيم يستخدمها كواجهة لتمرير أمواله إلى خلاياه حول العالم؛ والتي تبدأ بجمع التبرعات لصالح جمعية خيرية ثم تقوم بدورها بإرسالها إلى داعش من خلال أفراد يحملون أسماء مستعارة عبر مواقع المراسلة والتواصل الاجتماعي مثل فيسبوك أو تطبيقات واتساب وماسنجر وتليجرام.
- إنتاج وسائط رقمية تظهر قوة التنظيم وانتشاره رغم هزيمته في العراق وسوريا وتجدد قدراته في شن العمليات لجذب مانحين جدد عبر العالم من أصحاب الأفكار المتطرفة، سواء داخل المنظمات الإرهابية أو المؤسسات الخيرية أو الشركات العابرة للحدود.
- تحفيز خلايا داعش النائمة على التوسع في عمليات الاختطاف والابتزاز مما ما يساعد التنظيم على توفير موارد مالية لتمويل عملياته، خاصة في المناطق البعيدة، والتي تصعب فيها حركة الأموال السائلة.
- توسيع قاعدة الأفراد والكيانات التي تقدم تسهيلات مالية لدعم التنظيم من خلال استقطاب "بيعات" جديدة وجذب كافة جميع المجموعات المتطرفة الصغيرة حول العالم واستخدمها في تنفيذ أيدلوجيته أيديولوجيته المالية والإرهابية.
- العملات الرقمية المشفرة والتي استطاع التنظيم أن يجدد دمائه التمويلية من خلال استغلال العالم الافتراضي ووسائط الإنترنت التي تنشط فيهما حركة هذه العملات وعلى رأسها بتكوين وزكاش ومونيرو وإثيريوم، والتي توفر تقنيات إخفاء الهوية وتحجب المعاملات والأطراف المعنية في تلك المعاملات، وهو الأمر الذي يريده التنظيم الإرهابي ويساعده على جذب المزيد مزيد من التبرعات والمنح المالية.
وقد أصدر تنظيم داعش وثيقة بعنوان (بيتكوين وصدقة الجهاد) حددت فيها الأحكام الشرعية لاستعمال هذه العملة الافتراضية التي "تمثل حلا عمليا للتغلب على الأنظمة المالية للحكومات (الكافرة)، وفقاً لوصف التنظيم، وبحسب الوثيقة وكيفية استخدام هذه العملة الافتراضية وإنشاء الحسابات المالية على الإنترنت، ونقل الأموال دون لفت انتباه أحد.
وبالنظر إلى هذه المصادر المالية المستنسخة التي خلقها تنظيم داعش الإرهابي من نظامه المالي السابق، وتمتعت بقدرة تشغيلية هائلة مع إيجاد موارد مالية متنوعة في مناطقه الجديدة يكون التنظيم قد نجح حتى الآن في التعاطي مع المعطيات الجديدة التالية لسقوطه وحقق بعضاً من الاكتفاء الذي يساعده على القيام بعملياته حاليا وربما مستقبلاً.
ثالثاً: السيناريوهات المستقبلية للشبكة المالية العنكبوتية لتنظيم داعش
بعد أن استطاع تنظيم داعش الإرهابي أن يخلق لنفسه حالة إرهابية متفردة تمايز بها على كافة جميع تقاطعات الجماعات المتطرفة استطاع أيضا أن يؤسس لنفسه شبكة مالية عنكبوتية معقدة لا تزال تشكل مصدرا رئيسيا لنفوذه وقوته وهو الأمر الذي يصعب من التنبؤ بمستقبل هذه الشبكة التي لا تزال تساعده على التعايش والبقاء والاستمرار ولكن وبشكل عام يمكن وضع عدة سيناريوهات لمستقبل هذه الشبكة، تتمثل فيما يلي:
السيناريو الأول: تضخم وتشعب شبكة داعش المالية
وذلك من خلال زيادة قدرات التنظيم على تحصين حركة ومسارات شبكته المالية بعمليات احترافية بواسطة أشخاص وكيانات تمتلك تقنيات إخفاء وحجب المعاملات المالية وإيجاد بدائل مبتكرة تشتت جهود المجتمع الدولي في مكافحة عمليات تمويل التنظيم الإرهابي.
السيناريو الثاني: تجفيف منابع شبكة داعش المالية
وذلك من خلال تشديد إجراءات الرقابة القانونية على كل المصادر المالية المشتبه في دعمها للتنظيم ووقف وعرقلة حركة هذه الأموال والكشف عن حيل التلاعب، التي يقوم بها الممولون من أجل إيصال الأموال إلى الدواعش، واتخاذ إجراءات قانونية حيال الأشخاص والكيانات الداعمة له ووضعهم على قوائم العقوبات الدولية.
السيناريو الثالث: الانحسار الأيديولوجي للتنظيم وفشل منظومته المالية:
وذلك من خلال القضاء على حواضنه الفكرية وقياداته التنظيمية والقضاء على الطائفية في الدول التي يتغذى التنظيم على تأجيجها لتوسيع انتشاره والتركيز على تنمية المناطق المهمشة والفقيرة التي يجدد فيها التنظيم وجوده مستغلاً العوامل والاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعقدة والمركَّبة بها.
مما سبق يمكن الوصول إلى الاستخلاصات التالية حول شبكة تنظيم داعش المالية والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- أن داعش لا يزال يستفيد من مدخرات المصادر المالية التي حصل عليها أثناء سيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا والتي اكسبت التنظيم مرونة واسعة التحرك العملياتي حالياً وحققت له بعضاً من الاكتفاء الذاتي، الذي ساعده على الاستمرار في القتال وتمويل عملياته الإرهابية ومقاومة الجهود الدولية التي لم تنجح حتى الآن في القضاء والتعقب الكامل على تلك الأموال.
2- عدم وجود استراتيجية دولية موحدة وأكثر فعَّالية لإضعاف "داعش" مالياً والتي سمحت للتنظيم بتكوين شبكة مالية عنكبوتية أعادت تدوير أمواله مما ما سمح له بإعادة تموضعه داخل جغرافيا جديدة وكسب مزيد من الوقت لتجديد دماء عناصره ومبايعيه.
3- عدم نجاعة الأساليب التقليدية في جمع المعلومات عن الشبكات المالية لداعش، وهو ما يسمح للتنظيم باستغلال الأوضاع المحلية غسيل أمواله بالاستثمار في أعمال مشروعه في العراق وسوريا وتركيا.
4- ضرورة تكوين شراكات قوية مع الحكومات المحلية والإقليمية والدولية، وتعزيز التعاون الاستخباراتي والمعلوماتي لمنع التنظيم من تطوير قدراته التشغيلية لموارده السابقة ومحاولاته المتجددة لإيجاد موارد مالية متنوعة في مناطقه الجديدة.
5- لا يزال تنظيم داعش الإرهابي يتمتع بقدرات كبيرة على تحصين حركة ومسارات شبكته المالية بل ويوجد لنفسه بدائل مبتكرة وهو ما يعوق جهود المجتمع الدولي في مكافحة عملياته الإرهابية المستمرة.
6- ضرورة تشديد إجراءات الرقابة على كافة جميع المصادر المالية المشتبه في دعمها لداعش ووقفها، واتخاذ إجراءات قانونية حيال الأشخاص والكيانات الداعمة للتنظيم ووضعهم على قوائم العقوبات الدولية.
مصطفى أمين عامر
باحث متخصص في شئون شؤون الجماعات الإسلامية
aXA6IDMuMTQ4LjEwNi40OSA= جزيرة ام اند امز