90 مذهباً فقهياً لم يتبق منها سوى أربعة فقط.. ما القصة؟ (خاص)
فتحت دعوة الداعية الإسلامي السعودي صالح المغامسي لـ"إقامة مذهب إسلامي جديد" باب النقاش حول المذاهب الفقهية الإسلامية.
المذاهب الإسلامية المعروفة حالياً هي 8 مذاهب، 4 منها تمثل أهل السنة والجماعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، بالإضافة للمذاهب الجعفرية والزيدية والظاهرية والإباضية.
هذه المذاهب ليست الوحيدة التي ظهرت خلال أكثر من 1400 سنة، ففي مايو/أيار 2022 قال الدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق، إن عدد المجتهدين وصل إلى أكثر من 90 مجتهداً لهم مذاهب، منهم: الليث بن سعد، حماد بن سلمة، حماد بن أبي سليمان، ابن جرير الطبري، الأوزاعي، وسفيان الثوري.
لماذا اندثرت مذاهب هؤلاء وغيرهم، ووصلت إلينا المذاهب السنية الأربعة فقط؟ الإجابة عرضها الباحث في التراث الإسلامي عبدالسميع جميل في دراسة نشرها إلكترونياً عام 2020.
90 مذهباً
يقول جميل إن المذاهب الفقهية السنية تجاوزت 90 مذهبًا، وكان من بينها مذاهب طاووس في اليمن، ومكحول، والأوزاعي في الشام، ومسلم بن يسار، ومحمد بن سيرين، وأبوأيوب السختياني في البصرة، وسفيان الثوري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة في الكوفة، وداوود الظاهري في بغداد، وفي المدينة سعيد بن مسيب، وعروة بن الزبير، ونافع مولى ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وربيعة بن عبدالرحمن المشهور بربيعة الرأي، وفي الأندلس كان ابن حزم، وفي نيسابور إسحاق بن راهويه شيخ البخاري، وفي مصر الليث بن سعد، لكنها اختفت كلها ولم يبق سوى المذاهب الأربعة السنية.
ينقل الباحث في التراث الإسلامي عن ابن حزم الأندلسي قوله في الجزء السادس من "وفيات الأعيان" أن هناك مذهبين انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبويوسف يعقوب، صاحب أبي حنيفة، كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى أفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه، والثاني مذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس.
وكذلك ينقل قول ابن قتيبة الآخر في "السياسة والإمامة" على لسان الإمام مالك نفسه حواره مع الخليفة المنصور العباسي سنة 136هـ، بهدف استمالته لنشر مذهبه على الجميع بقوة السلطة، فقال: "قال لي: يا أبا عبدالله ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتبا، وتجنب شدائد عبدالله بن عمر، ورخص عبدالله بن عباس، وشواذ عبدالله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم ألا يخالفوها ولا يقضوا بسواها، فقلت له: أصلح الله الأمير إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبوجعفر: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط".
وانتشر المذهب المالكي في الأندلس أيضا بفضل تلميذ مالك يحيى بن يحيى الليثي، الذي كان مقربًا من السلطة الأموية هناك طبقا لقول ابن حزم: "فإنّ يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به".
وكذلك الأمر في إفريقية، فقد عمل الفقيه المالكي سحنون التنوخي على نشر المذهب المالكي في تونس حين تولى منصب القضاء سنة 234هـ في دولة الأغالبة، بالإضافة لتمرد المعز بن باديس سنة 441هـ على الدولة الفاطمية في المغرب، ومحاربته للمذهب الشيعي، جاعلًا المذهب المالكي مذهبًا رسميًا لبلاد المغرب العربي حتى الآن.
نشر الشافعي في مصر
يقول جميل إن ما حدث مع المذهب الحنفي والمالكي تكرر مع المذهب الشافعي أيضًا، فقد انتشر هو الآخر في مصر والشام والعراق حتى جاءت الدولة الفاطمية وأبطلت العمل به لصالح المذهب الشيعي الإسماعيلي للدولة الفاطمية.
ثم جاء صلاح الدين الأيوبي سنة 565هـ فأسقط الدولة الفاطمية، وفرض المذهبين الشافعي والمالكي على الناس، كما يقول المقريزي: "فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعة، وقلد القضاء صدر الدين عبدالملك بن درباس الشافعي، وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله، وعزل سائر القضاة في الأقاليم، واستناب قضاة شافعية، فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نُسي من مصر".
نشر المذهب الحنبلي
ويوضح جميل أن نفس السيناريو تكرر مع المذهب الحنبلي على يد المتوكل العباسي الذي انحاز لابن حنبل وأهل الحديث عمومًا ضد المعتزلة، وقدم لهم الأموال والهدايا، وقربهم إليه بحسب قول ابن كثير في "البداية والنهاية": "وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وما من يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره".
لذلك أطلق الحنابلة على المتوكل وصف محيى السنة، لأن مصطلح أهل السنة لم يظهر في تاريخ المسلمين إلا في عهد المتوكل سنة 234هـ، وفق ما ذكره المسعوديّ، بقوله: "أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل، والترك لما كان الناس عليه أيَّام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة".
وهو ما تكرر في القرن الخامس الهجري مع الخليفة العباسي القادر بالله الذي أصدر سنة 408هـ بيانه الشهير بـ"العقيدة القادرية" الذي انحاز فيه تمامًا لعقائد الحنابلة، وقلدهم منصب القضاء وقربهم إليه، وكان على رأسهم القاضي الحنبلي الشهير أبويعلى الفراء، ما أدى إلى انتشار المذهب الحنبلي في كثير من أحياء بغداد.
اعتماد المذاهب الأربعة
بعد ذلك، يوضح جميل أن دولة المماليك جاءت فاعتمدت رسمياً المذاهب الأربعة فقط، طبقاً لما ذكره "المقريزي" في "المواعظ والاعتبار": "فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولى بمصر أربعة قضاة، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665ه، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعملت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها".
سر الانحياز
يوضح جميل أن سبب الانحياز لهذه المذاهب هو رغبة السلطة التي وجدت في تلك المذاهب تبريرًا لأفعالها بداية من الدعوة لوجوب طاعة الحاكم، وحرمة الخروج عليه وإن كان ظالمًا، وصولًا إلى إضفاء الشرعية الدينية على هؤلاء الحكام.
ويضرب المثل بالدولة العثمانية، التي لم تجد لنفسها شرعية دينية لحكم المسلمين وفق المذاهب الفقهية السنية، المالكية والشافعية والحنبلية، التي تشترط في الخليفة أن يكون عربيًا قرشيًا، وهو شرط غير ممكن مع السلاطين العثمانيين، كونهم أتراكًا، ولذلك استحسن الأتراك مذهب أبي حنيفة، لأنه لم يشترط القرشية في الخليفة، ومن ثمَّ انحازوا رسميًا لمذهبه، وعملوا على نشره بين الناس بكل الطرق، حتى أصبح أشهر مذهب فقهي بسبب سيطرة الدولة العثمانية على الأمة الإسلامية سبعة قرون.
قانون لا فقه
يعلق جميل على دعوات إنشاء مذهب جديد لـ"العين الإخبارية" قائلا: "أعتقد أننا في مرحلة تاريخية نحتاج فيها للانتقال من دولة الفقه إلى دولة القانون، نريد أن نتقدم للأمام، ولا نعود إلى الوراء".
ويضيف: "إن المذهب الجديد لن يتقبله معتنقو المذاهب ولن يعملوا به، ولأن العصر يتطور سريعًا، فالأفضل توفيق القوانين وفق مقتضيات العصر، وإذا تغيرت الأمور نعدل القانون، بعكس المذهب الذي ربما يكتسب إلزامية مع الزمن، ونعود لنفس المشكلة".
ويوضح جميل أن إدخال المذاهب الفقهية في القوانين أكسبها الإلزامية، وأصبحت لها سلطة إلزامية، وتكرار هذا الأمر سيبقينا في نفس الأزمة، مؤكدًا أنه لا يعارض فكرة خلق مذهب أو تيار جديد لكنه يؤكد ضرورة عدم إلزامتيه للغير.
aXA6IDMuMTQyLjI1NS4yMyA= جزيرة ام اند امز