مخاطر النكوص إلى الحاضنة المذهبية الضيقة، كحال "حزب الله" الإرهابي، والاحتكام إلى مرجعياتها السياسية والتنافس الحزبي، لا تقتصر على تعميق الشرخ الوطني وتقسيم لبنان فحسب، بل تتعداه لضرب بنية الوحدة المجتمعية.
كما تحولها إلى ظاهرة سلبية بوجهين، وجه معلن ومغلف بعناوين وطنية، ووجه باطني مضمر يشكل الوعاء الحقيقي الحاضن والرافد لدور ووظيفة ما ينبثق أساسا من مطالب ومصالح فئوية خدمة لمشروع مناقض لهوية لبنان التاريخية.
والتباين بين قطبي "الثنائي الشيعي" في لبنان جوهري في أبعاده السلوكية وفي الممارسة والولاءات. والحديث هنا لا يتعلق بالبُعد المذهبي الحاضن لطرفي الثنائية، إنه محاولة لتسليط الضوء على البعد المصلحي-السياسي وخيوطه، التي نسجت إزار هذه الثنائية وحوّلتها إلى صيغة حزبية وسياسية، بعد أن تجاوزت معوقات تلاقيهما الراهن.
المعوقات كرّستها صراعاتهما، التي وصلت إلى المواجهة الدموية في مراحل سابقة ولا تزال مرارتها كامنة في نفوس الطرفين.
والبراهين الدالة على الدور التعطيلي لما بات يُعرف في لبنان بـ"الثنائي الشيعي" كثيرة، وقد أدت دورها في تقديم لبنان بجميع ركائزه وعناوينه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية إلى العالم على أنه أشبه بظاهرة يديرها ويقوم عليها إما أفراد مهووسون بالسلطة وثمارها، وإما هيئات رهينة لأجندات لا تسلك سبيل خدمة لبنان وشعبه.
تتشكل الصورة النمطية لأي نظام سياسي من خلال ممارساته وسياساته وبرامجه وتوجهاته الداخلية قبل الخارجية، انطلاقاً من بنيته وركائز مؤسساته وإدارته للقوى المحلية، حزبية كانت أم قوى مجتمع مدني أو أهلي، ضمن معادلة وطنية عامة قائمة على جدلية التفاعل بين جميع تلك المكونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مع القوانين والأنظمة المرعية التي تعتبر الأساس الدستوري للدولة، وبالتالي فإن التوازنات المحكمة والدقيقة التي يقيمها النظام الحاكم بين مختلف التيارات والقوى المحلية لا بد لها من المحافظة على حقوق كل طرف، من حيث خصوصيته الفكرية والأيديولوجية والاجتماعية، ورسم خطوط دستورية تفيد في عملية احترام التباينات، وحتى التناقضات مع الأطراف الأخرى المشكّلة لكيان المجتمع والدولة.
هل من تمايز بين الدولة والمجتمع؟
لا شك، الدولة كمفهوم وممارسة لها وظائفها وأدواتها وصلاحياتها وسُلطاتها، ويتجلى ذلك عندما يتطلب الأمر دورها للحفاظ على الأمن والاستقرار خارج حدودها وداخلها، بما فيه المجتمع الذي منحها ثقته عبر عملية ديمقراطية، أما المجتمع فتتفاوت التعريفات بشأن ماهيته وتوصيفه، لكنها تتفق على أنه مجموعة من الناس تعيش معًا بشكل منظم وضمن جماعة منظمة، يسعى كل فرد فيه لتحقيق مصالحه واحتياجاته، ويتم تنظيم المجتمع من قبل الدولة بناء على فكرة التعاقد، وعلاقته بالدولة ليست تصادمية.
أما النماذج المذهبية، فهي تسعى وتعمل على الدوام إلى تقوية ركائزها على حساب قوة الدولة، وهي بهذه السلوكيات والممارسات تقلص مقومات الدولة ومرافقها من خلال الانتهاكات والتعديات والتسلط، فتبدأ الدولة، بوصفها كيانًا، في التراجع عن أداء وظيفتها.
دينامية المجتمع اللبناني وحيويته بكل مكوناته وقطاعاته لم تفقد بريقها، الذي وسم مراحل وجوده على مر عقود من الزمن، وظل يتجدد ما قويت تياراته وتمسكت برمزية الدولة كمرجعية وحاضنة ينصهر في بوتقتها الجميع.
ولعل نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة جاءت كأكثر البراهين دلالة على هذه الحيوية والرغبة في التجدد والإرادة المجتمعية الواعية لأهمية وضرورة التمسك بخيار الدولة الضامنة والحاضنة لمكوناته المتعددة، والعمل على إعادة الروح إلى العمل الوطني من خلال سياقات حزبية سياسية، لا مذهبية.
النكوص والعودة إلى الحاضنة المذهبية كظل يتلطى خلفه البعض، يحمل ملامح العودة إلى ذهنية الصراع والحروب ويكرّس انقسامات واصطفافات بكل ما تعنيه من خطر ومخاطر على المجتمع والدولة، ويشكل أولى الإرهاصات الدالة على عجز الدولة ونظامها السياسي عن القيام بوظيفته، وينبئ بتحول العلاقة بين النظام السياسي القائم وبين البِنى المذهبية إلى عملية تخادم متبادل على حساب استقرار المجتمع وازدهاره.
ما أفرزته صناديق الاقتراع في لبنان لا يقتصر على تحديد تراجع كتلة أو تقدم أخرى، إنها حصادُ وعيٍ إراديٍ مُتعمَّد لصياغة أسس عهد لبناني يحتضن الجميع تحت خيمة وطن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة