ما زالت إسرائيل تعاني من أزمة الهوية بين الدولة العلمانية الديمقراطية، والدولة الدينية الأصولية.
هذا الموضوع نطرحهٌ الآن في سياقات عدة من الحديث عن إسرائيل الكبرى، إلى استمرار حرب غزة ومحاولة تهجير أهلها وتمزيق الضفة الغربية عبر بناء المستوطنات، إلى سياق ما تناقلهُ الإعلام عن مساعدة وزير الخارجية الإماراتي للشؤون السياسية لانا زكي نسيبة، في مقابلة مع وكالة رويترز، حيث ذكرت "بأن دعم الإمارات لإنشاء دولة فلسطينية كان عنصراً محورياً في قرار أبوظبي توقيع الاتفاقيات الابراهيمية في عام 2020، وشددت على أن أي ضم إسرائيل لأراضٍ في الضفة الغربية يمثل خطاً أحمر سيقوّض الاتفاقيات الإبراهيمية في المنطقة".
فالدولة وهويتها تتضح من خلال القانون الدولي واتفاقية مونتيفيديو لعام 1933، فقد اتفق فقهاء القانون والسياسة حول تعريف الدولة بأنها تجمّع بشري على إقليم مُحدد وله سلطة تحكمه، أما مسألة هوية الدولة فهي تتكون عبر ما تعتمدهُ "الدولة" من سياسات وفلسفات في مختلف المجالات وما يمثله نظامها السياسي ودستورها وأحزابها وأجهزتها الإدارية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، وبالنظر إلى ماهية دولة إسرائيل نكتشف بأنها تحمل وجهين يغالب أحدهما الآخر في فترة معينة وفي ظروف خاصة، وجه الدولة العلمانية الديمقراطية مقابل وجه الدولة ذات البُعد الديني الأصولي.
فالبعد الديني في الهوية الإسرائيلية كانت سبباً في توقف مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعاملاً رئيسياً في حجم التدمير والقتل في غزة إلى جانب محاولات التهجير إلى سيناء مصر، وأيضاً الحضور الديني المتطرف المتزايد يقوض فكرة حل الدولتين، وهو ما يحدث فعلاً في تمزيق الضفة الغربية ببناء المستوطنات والحرب على غزة، ووصل البعد الديني المتطرف إلى الحديث عن إسرائيل الكبرى، حيث عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن شعورهِ بأنهُ في "مهمة تاريخية وروحية"، وأنه متمسك جداً برؤية إسرائيل الكبرى، هذا الأمر يعد تهديداً صريحاً للجوار الجغرافي والشرعية الدولية، ومقوضاً لفرص السلام والاستقرار في المنطقة.
فإسرائيل اليوم تحت حكم الليكود واليمين المتطرف أضحت متمسكة بأفكار دينية متطرفة مع مسار "رئيف جابوتِنسكي" الذي يقوم على نظرية الجدار الحديدي، حيث التفوق العسكري الإسرائيلي، كما أن مسار جابوتِنسكي يحمل منظور القضاء على شعب فلسطين من الناحية السياسية؛ حيث تموت لديهم فكرة الدولة الفلسطينية بالكامل، ويصبحون أقلية ضعيفة، مع خلق ظروف لتوسع إسرائيل جغرافياً حسب الخريطة الدينية، وفي سياق نظرية "الجدار الحديدي" يرى مناصريها بأن الاتفاقيات الإبراهيمية هي نتاج التفوق الإسرائيلي في المنطقة، وليست هناك علاقة بين الاتفاقيات وفرص إقامة دولة فلسطينية.
حقيقةً، أزمة الهوية بين الوجه العلماني والديني تعتبر متجذرةً تاريخياً، ففي بداية قيام إسرائيل كان الوجه الديني هو العامل الأول الذي ساعد على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، وعند قيام إسرائيل كانت النخبة السياسية تريد من إسرائيل أن تكون دولة علمانية، وأخذ دافيد بن غوريون هذا البعد الذي تجسّد في الكثير من سياساتهِ، فقد كان على سبيل المثال يمنع وصول الأسلحة التي تُنقل بحراً إلى المليشيات الأصولية، ولكنه كان يمشي بحذر مع أصحاب الخطاب الديني الأصولي في المجتمع الإسرائيلي، فالنخبة السياسية الإسرائيلية آنذاك كانت تجيد قراءة العالم من غرب أوروبا وشرقها ومن القارة الأمريكية الشمالية والجنوبية وحتى الشرق الأوسط بحكم خبرة المهاجرين إلى فلسطين من مختلف البقاع التي كانت تضمهم، وغلب على هذه النخبة السياسية سيطرة المهاجرين من شرق أوروبا.
ولقد امتدت بقوة الحكومات “اليسارية” في إسرائيل من 1948 إلى 1977، وعلى مدار ثلاثين عاماً جرت أحداث مهمة في تقليب الوجهين وإعادة الوجه الديني الذي أخذ يغالب الوجه العلماني، فبعد حرب 1967 وانتصار إسرائيل وضمها أراضي، هي أكبر من الأرض التي أُقيمت عليها دولة إسرائيل عام 1948، لم تكن النخبة السياسية العلمانية تحمل تصوّراً أو استراتيجية لكيفية التعامل مع هذه الأرض الجديدة؛ حيث أعلنت في أعقاب حرب 1967 أنها سوف تُطبّق القانون الدولي الإنساني "قانون الحرب" في الأراضي الجديدة - ومن الأهمية ذكر بأن تم تشكيل حكومة طوارئ عشية حرب 1967 بين رئيس حزب "حيروت" المعروف لاحقاً باسم حزب الليكود وحكومة حزب العمل برئاسة ليفي إشكول-، وقد تكونت مجالس حاخامات المستوطنات، وهي عبارة عن مؤسسات مجتمع مدني تحولت إلى السياسة في كل ما يخص عمليات الاستيطان أو التنازل عن الأراضي الجديدة، التي ضُمت إلى إسرائيل بعد نكسة 1967، وتدّعي هذه المجالس أن هذه الأرض هبة من الله لشعب الله المختار، لما تحمله الضفة الغربية من مكانة دينية.
وبذلك، فإن إسرائيل في هذه الفترة كانت بين العلمانية التي نجحت في إقامة علاقات دولية واعتراف بها وبين الأصولية، والتي لها رواج خطابي في المجتمع مع إدارة شؤون المستوطنات، ولم تكن العلمانية تحاول كبح جماح هذا البروز بقدر ما أصبحت تتعامل وتتعاطى معه. وفي البعد التاريخي أيضاً نجد في حرب 1973 التي مثلت هزيمة لإسرائيل، قد عملت الأصولية الدينية على استغلالها شعبياً بأنها غضبٌ من الله، ولذلك غادر "اليسار" الحكومة عام 1977، وهنا نكتشف بأن الأصولية الدينية تستغل الأحداث بكل أوضاعها الإيجابية والسلبية من انتصار وهزيمة باسم الرب.
ومن الأحداث المهمة ذات البعد الديني، فبعد معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، اُغتيل الرئيس المصري أنور السادات باسم الدين، كما لحقهُ وباسم الدين أيضاً إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي، لأنه كان يتجه إلى السلام مع الفلسطينيين، وهو ما يصطدم مع توجهات المتطرفين اليهود.
يبقى السؤال؛ هل إسرائيل حقاً ألغت فكرة حل الدولتين، وهل هي ماضية في سياساتها العنصرية وتهجير الفلسطينيين وتمددها الصهيوني النابع من معتقدات دينية متطرفة؟، أتظن أنها ستحافظ على علاقاتها الدبلوماسية مع الدول العربية في مسار العنصرية والتمدد والتوسع الجغرافي وإلغاء فكرة الدولة والحكم الفلسطيني؟ إن كان في المعتقد الديني اليهودي بأنها مفضلة ومدللة من الرب "الله عز وجل"، فلا بد أن تدرك بأن عملية وفكرة السلام سمحت للديمقراطيات الغربية بالتغاضي عن الاحتلال الإسرائيلي لصالح مستقبل طموح ينتهي فيه الاحتلال بالتفاوض المتبادل وإقامة دولة فلسطينية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة