تبحث إسرائيل في حربها الراهنة في غزة عن النصر. وتقول إنها سوف تحققه "مهما كلف الثمن". ولكن كيف إذا كان ثمن النصر هو الهزيمة نفسها؟
بعيداً عما يدور على ساحة المعركة، وعن خسائرها وتكاليفها، هناك شيء آخر يحسن النظر إليه.
الرأي العام الدولي، غير الرسمي، ينقلب ضد ما يتكرر وصفه بأنه "جرائم حرب" و"جرائم ضد الإنسانية".
الصور والمشاهد التي يتم تداولها على نطاق واسع، عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، تقول ما لا تقوله وسائل الإعلام التي تضبطها "المعايير"، أو تنضبط لقيودها الخفية.
هناك بيئة رأي عام ترى ما تراه من دون تفسير. لأن الصور والمشاهد تفسر نفسها بما لا يحتمل المزيد من التأويل.
هدم المجمعات السكنية الفلسطينية، وقطع الماء والكهرباء والدواء والاتصالات والوقود، لا تنتظر تحليلاً قانونياً أو مطابقات مع معاهدة جنيف لعام 1948، ليعرف مليارات البشر أنها لا تتوافق مع القواعد الإنسانية للحرب.
لم تجد إسرائيل ما تفسر به مقتل نحو 190 فلسطينياً في مخيم جباليا على سبيل المثال، سوى القول إن هدم مجمع سكني من عدة بنايات مكتظة، كان يستهدف قيادياً من "حماس"، من دون تأكيد أنه كان موجوداً هناك بالفعل.
يصعب على الرأي العام أن يفهم كيف، أو بأي منطق عسكري، يمكن قتل كل هذا العدد من البشر، من أجل قتل شخص واحد، كائنا من كان.
ما سوف يظل يعلق بهذا الحادث، وكل الحوادث المماثلة، هو الأطفال الذين يخرجون، قتلى أو جرحى، من تحت الأنقاض.
ما سوف يظل يعلق بالحرب كلها، هو أكداس الجثث التي تتراكم كل يوم، بينما تعجز المستشفيات عن إسعاف الجرحى، وبينما يضطر الأطباء إلى إجراء عمليات من دون تخدير.
وما سوف يظل يعلق بصورة الأوضاع الإنسانية، الحال المروعة لمئات الآلاف من البشر الذين باتوا بلا مأوى، بلا طعام، بلا وسائل اتصال، وبلا ملجأ يلوذون به.
ولو لم تخلط الدعاية الإسرائيلية الحقيقة بالأكاذيب في شأن ما حدث يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكان من الممكن أن لدعاية الحرب أن تشفع لنفسها ولو بالقليل. إلا أنها أضاعت الفرصة عندما زعمت ما زعمت عن ذبح الأطفال واغتصاب النساء وحرق الجثث، بينما كان الكثير من القتلى الإسرائيليين قتلوا، وأحرقت جثثهم برد الفعل المذعور لطائرات الأباتشي، التي قصفت كل ما رأته يتحرك.
حاصل ذلك الخلط، هو أن تلك الدعاية خسرت المعركة سلفاً ومسبقاً، أمام عنف أعمال القصف، وحجم الضحايا، وضخامة الكلفة الإنسانية على الجانب الفلسطيني، لما أرادت إسرائيل أن يكون سبيلها لتحقيق النصر.
أصوات يهودية في الولايات المتحدة، تنبري الآن، للتنديد بما يُرتكب من جرائم، وتطالب بوقف فوري للحرب ومراعاة القواعد الإنسانية فيها، والسماح بدخول شحنات الإغاثة.
هذه الأصوات، تقرأ في الواقع ما يتغير في المزاج العام. تقرأ عواقبه المستقبلية أيضاً، وذلك مثلما تقرأ الأثر الذي يجعل "سردية الضحية" لجرائم الكراهية والنازية، تتزامن مع سردية أخرى لواقع منظور، يتهم "الضحية" القديمة بارتكاب جرائم حرب في عالم اليوم.
هذا منقلب خطير. إنه مشروع لهزيمة أبعد بكثير من كل نصر محتمل قد يمكن لإسرائيل أن تحققه على أنقاض غزة.
الرأي العام، الجديد، الذي يتحرر من قوالب المفاهيم المسبقة، ويتجاوز المخاوف من الاتهامات بـ"معاداة السامية"، ويخرج ليتظاهر في واشنطن ولندن وبرلين وباريس والعديد من عواصم العالم الغربي الأخرى، قد ينتهي إلى زعزعة استقرار تلك المفاهيم، ليزعزع من بعدها مصادر النفوذ والتأثير التي تمتلكها "سردية الضحية"، ومن يمتثلون لها سياسياً وإعلامياً.
الرئيس الأمريكي جو بايدن، قد لا ينجو من دعمه المطلق لإسرائيل. وقد لا يتمكن من كسب الرئاسة من جديد. وكذلك الحال بالنسبة لحزب المحافظين في بريطانيا، أو الائتلاف الحاكم في ألمانيا.
لا يتعلق الأمر بمدى تأثير أصوات المسلمين في هذه البلدان. التأثير الأكبر إنما يصنعه الرأي العام الأوسع، الذي ينظر في الصور والمشاهد، ويبني عليها قناعات عسيرة على الضبط.
ولقد بَنَت إسرائيل صورة لنفسها في المجتمعات الغربية، ومنها ظلت تستمد الدعم والمساندة والتفهم والقبول. هذه الصورة هي ما يتهدم الآن، في جوار ما يتم تداوله من صور الدمار وتكدس القتلى من المدنيين الفلسطينيين. وهي تتهدم في واقع لم تبقَ فيه منظمة واحدة من المنظمات الإنسانية، التابعة وغير التابعة، للأمم المتحدة، إلا وأطلقت الوصف الذي يتطابق مع التعريف المألوف لجرائم الحرب.
و"الاحتلال" كلمة صارت تتكرر، أكثر من كل كلمة أخرى، لتشير إلى جذر أزمة، لطالما تمنت الحكومات الإسرائيلية المختلفة أن تطمسه.
قد تسعى إسرائيل لكي تحقق نصراً "مهما كلف الثمن". إلا أن "الثمن"، في حدود ما تقوله مشاهد الموت والدمار، سيكون هو الهزيمة نفسها.
النصر قد يتحقق في غزة. إلا أن الهزيمة قد تأتي من كل مكان آخر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة