الاقتصاد الياباني.. سردية آسيوية تقهر "النيوليبرالية" (تحليل)
شهد الاقتصاد العالمي تغييرا كبيرا يمثل انقلاباً فعلياً للسرد النيوليبرالي الذي ساد العالم منذ نهاية الحرب الباردة عندما بدا أن تفكك الشيوعية السوفياتية أدى إلى تشويه فكرة النمو الاقتصادي الموجه من قبل الحكومة.
وحسب تقرير لمجلة "فورين بوليسي"، فإن اليابان تقدم سرديتها الخاصة حيث اختارت "الطريق الوسط" في علاقة الدولة بالتدخل الاقتصادي، وبينما تنجح نسبيا، هناك مؤشرات أخرى على تداعي "النيوليبرالية".
وأوضحت أن انهيار اقتصاد اليابان في أوائل التسعينيات، أدى إلى فترة طويلة من النمو البطيء والشيخوخة في معجزة شرق آسيا، وذلك بعد أن اتخذت العديد من القرارات السيئة منذ بدأت هذه الرحلة الطويلة من العولمة وأصبحت غير قادرة على مواكبتها.
فصل جديد
لكن اليابان دخلت فصلا جديدا من قصتها غير العادية في فترة ما بعد الحرب، وهي تتمتع بطفرة جديدة في النشاط الاقتصادي بما في ذلك نمو سنوي يقارب 5% وبعض الزيادات في الأسعار والأجور.
وتشير هذه المؤشرات إلى أن الاقتصاد الياباني وصل إلى نقطة تحول في معركته المستمرة منذ 25 عاماً مع الانكماش، كما قالت الحكومة في تقريرها السنوي.
ويشير التقرير إلى أن خبراء اقتصاديين ظلوا لفترة طويلة يستحضرون "الطريق الوسط" الذي اتبعته اليابان ودول شرق آسيا فيما يتصل بالدعم الصناعي الحكومي الحساس للسوق.
وقال جوزيف ستيجليتز، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، من جامعة كولومبيا إن الميزة الكبرى لليابان هي أنهم "قبل أن يبدأوا في الشعور بالضيق، تمكنوا من تحقيق دولة أكثر مساواة بكثير".
أزمة الرأسمالية العالمية
وبعد انهيار عام 2008 الذي أدى إلى إغراق وول ستريت - والنظام المالي الأمريكي بأكمله تقريبًا - كان من الواضح أن الأزمة كانت، في الواقع، أزمة الرأسمالية العالمية.
ولم تكن المشكلة في كل من الولايات المتحدة وآسيا في تدخل الحكومة بقدر ما كانت في نقيضها تماما، وذلك بسبب تدفقات رأس المال والأسواق المالية غير المنظمة تمامًا، فضلا عن التعريفات الضريبية المنخفضة التي اتبعتها الولايات المتحدة والتي فضلت مصالح الشركات.
وقال لي إيسوكي ساكاكيبارا، نائب وزير المالية والشؤون الدولية السابق في اليابان إن أسواق رأس المال العالمية مسؤولة إلى حد كبير. ويشير ساكاكيبارا إلى أنه بدارسه أزمة آسيا، يعد السبب الجذري لها هو التدفق الضخم لرؤوس الأموال إلى ماليزيا، وتايلاند، وكوريا الجنوبية، والصين، ثم فجأة هرب كل الاستثمار الأجنبي من تلك الدول.
وكانت الثقة الأمريكية في غير محلها إلى حد كبير، في أن مزايا التكنولوجيا الفائقة التي تتمتع بها البلاد سوف تترجم تلقائيا إلى عصر تصنيع جديد يعود بالنفع على الطبقة المتوسطة. إلا أنه بحلول منتصف التسعينيات، كان من الواضح أن الشركات الناشئة على غرار شركات وادي السيليكون لا ترفع الاقتصاد الأمريكي وفقا لما هو مأمول.
ويرجع ذلك إلى أن معظم التوسع في عمليات التصنيع حدث خارج أمريكا في البلدان ذات الأجور المنخفضة ولذلك ظلت النيوليبرالية تحتضر منذ ذلك الحين، ووجه دونالد ترامب وجو بايدن ضربات الموت لها.
وقد أصبح من الواضح أنه في الولايات المتحدة، وكذلك في غيرها من الاقتصادات الغربية الكبرى، أدى اتساع فجوة التفاوت الناجم عن اتباع الفكر النيوليبرالي إلى عدم استقرار اجتماعي وشعبوية على اليمين واليسار.
وقد نجح ترامب ورئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون في تحويل الديمقراطيتين اللتين بنيتا النظام الاقتصادي العالمي في فترة ما بعد الحرب إلى اتحادات مناهضة للعولمة ومنغلقة على ذاتها.
وركز ترامب على بدء حرب تجارية وشل منظمة التجارة العالمية، وأخرج جونسون بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لكن كيف وصل الحال إلى هذا الوضع المقلوب رأسا على عقب؟
وبدأ الأمر قبل نحو ثلاثة عقود من الزمن، عندما تولى الرئيس الأمريكي ببِل كلينتون منصبه في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وقرر أن الأسواق والعولمة هي الحل ــ حتى بالنسبة للديمقراطيين التقدميين السابقين من أمثاله.
وآنذاك، كانت الاقتصادات الموجّهة قد فقدت مصداقيتها تمامًا. وفي العالم النامي، كانت سياسة التدخل الحكومي التي تتمثل في دعم الصناعة المحلية وإغلاق الحواجز التجارية أمام الأجانب قد فشلت فشلا ذريعاً أيضاً، خاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، مما أدى إلى انتشار الفساد والفقر.
ولكن بعد ذلك كانت هناك تجربة دول شرق آسيا المسماة "نمور آسيا" في شرق آسيا، والمستلهمة من اليابان، بطلة الاقتصاد الموجه في فترة ما بعد الحرب، والذين قد نجحوا إلى حد كبير في ذلك الوقت.
دراسة البنك الدولي
وقد توصل البنك الدولي في دراسة حول أسباب نجاح دول شرق آسيا والذي خلص بتردد إلى أن "دخول الدول الصديقة للسوق قد ينجح في بعض الأحيان. لكن تم تجاهله بشكل كبير لدرجة أنه لم يكن له تأثير يذكر لأن واشنطن لم تكن ترغب في المخاطرة بتحويل دول مثل الهند إلى عمالقة تصدير مدعومين من الحكومة وتنتهج سياسات على غرار سياسات شرق آسيا".
ووجه بعض الاقتصاديين انتقادات ضد فكرة أن منطقة شرق آسيا لديها بديل قابل للتطبيق خاصة في مقال نشرته مجلة فورين أفيرز عام 1994 بعنوان "أسطورة معجزة آسيا" للكاتب بول كروجمان حيث قال إن ضخ كل رأس المال هذا في الصناعة في الداخل لن يؤدي إلا إلى "عائدات متناقصة".
ومع ذلك، فالكثير من هذه الاستراتيجيات الاقتصادية الراسخة منذ فترة طويلة بدأت تتصدع الآن حيث أظهرت مراجعة لخمسين عاماً من التنمية أن عدداً قليلاً فقط من البلدان نجح في الانتقال من الفقر النسبي أو المطلق إلى وضع الاقتصاد المتقدم.
وأما فكرة أن الحكومة لا تستطيع أن تحدث فرقا كبيرا، فقد أثبتت منطقة شرق آسيا أنها قادرة على ذلك. لكن حتى وقت قريب كانت تجارب المعجزات الآسيوية تعتبر في الأغلب مجرد حوادث لا يمكن ولا ينبغي الاعتماد عليها ، على الأقل من وجهة نظر اقتصادية.