بالصور: معرض كمال يوسف.. كبسولة زمنية برؤية سريالية
حينما يكون الفن مؤرخاً للماضي، عاكساً للواقع، تمسي قيمته أنبل.. ذلك هو لب معرض "كبسولة الزمن للسريالية المصرية" للفنان كمال يوسف.
حينما يكون الفن شاهداً على العصر، مؤرخاً للماضي، عاكساً للواقع، تمسي قيمته أنبل وأسمى.. ذلك هو لب المعرض الفني الاستعادي "كبسولة الزمن للسريالية المصرية" للفنان المصري الأميركي كمال يوسف الذي افتتح أخيراً بمتحف الشارقة للفنون ويستمر لغاية 17 نوفمبر 2016.
ولد الفنان كمال يوسف عام 1923 ولاتزال مسيرة عطائه الفني مستمرة إلى يومنا الحالي، وهنا في أروقة متحف الشارقة للفنون ومن خلال أعماله التي تنظر إلى الواقع بتوارٍ خلف الحلم والسريالية يمكن الارتحال لزمن غابر أرخه الفنان بذاتية في أعمال تحتفي بها اليوم قاعات عرض المتحف.
يعد الفنان المصري المنشأ أمريكي الإقامة والجنسية واحدًا من أبرز السرياليين بين جيله، وعلى مدار مسيره فنية زاخرة أنتج مئات الأعمال المتنوعة والمختلفة والتي يمكن اعتبارها تدوين للأحداث على صعيد الساحة الفنية والسياسية والاجتماعية في مصر والإقليم ولن نبالغ إن قلنا العالم، وهو ما تحدث عنه القيم الفني الدكتور صلاح حسن بروفسور كرسي أستاذية جولدوين سميث مدير معهد دراسة الحداثات المقارنة بجامعة كورنيل قائلا: "لقد وجدنا من الصعوب اختصار حياة الفنية العريضة في معرض واحد، لكننا حاولنا في هذا المعرض أن نلجأ إلى أسلوب العرض الاستعادي الذي يتعمد على السرد الزمني لمنجزات الفنان".
لقد تم تقسم المعرض إلى ثيمات متعددة استهلت بعرض باكورة أعمال الفنان أثناء انتمائه لـ"جماعة الفن والحرية"، وهي مجموعة من الفنانين السرياليين تم تأسيسها في مصر عام 1939 بقيادة المثقف الفرنكفوني المصري جورج حنين، والتي اجتمع حولها بعض من الفنانين الكبار الذين أصبحوا من أعمدة الفن في مصر، وكان يوسف ناشطا فنيا ضمن هذه المجموعة في ذاك الوقت، حيث عرض كثيرا من الأعمال بينما لا يزال طالبا في مدرسة الملك فاروق ويتتلمذ على يد مجموعة من أهم الفنانين المصريين من أمثال حسين يوسف أمين وراتب صديق.
ورغم التحاق الفنان بمدرسة "البوليتكنيك" ونجاحه في الهندسة، وعدم دراسته بمدرسة القاهرة الفنون الجميلة، إلا أن فنه الغزير لم يتوقف قط، فهو من أسس مع رفقائه من الفنانين مدرسة فنية طليعية تحت اسم "جماعة الفن المعاصر" والتي اشتملت على مجموعة مهمة من الفنانين المصريين المعاصرين منهم حامد ندى وعبدالهادي الجزار وإبراهيم مسعودة وسمير رافع، بقيادة معلمه حسين يوسف أمين، وقد انبثقت هذه المجموعة عن حركة السريالية الأولى لتأخذ منحى مختلف يبحث عن جزور السريالية في الثقافة المصرية الشعبية.
يمكن ملاحظة هذا التأثر في كثير من أعمال يوسف المعروضة في قلب متحف الفنون، فتبوح بعض اللوحات برموز مألوفة عن الثقافة والريف المصري والتناقض الواقع بين الريف والمدن في حقبة الأربعينيات والخمسينيات، فرغم انتماء الفنان إلى عائلة ميسورة الحال وسكناه في المدينة إلى أنه تأثر بأصوله الريفية وذهابه مع العائلة إلى البيت الريفي وقضاء العطلات فيه. واستطاع الفن أن يعكس تناقضات زمنه من خلال التركيز على ملامح البيئة المصرية خاصة في الريف ونقيضها في الحضر، ليكون برؤيته الفنية مؤرخا وشاهدا على العصر، حيث تركز لوحات الفنان في تلك الحقبة على مسألة العدالة الاجتماعية من خلال صياغة سريالية فنية وهو ما ظهر جليا في أعمال أولى أروقة العرض من المتحف.
في ردهات المكان المختلفة يتجول المشاهد ليتعرف أكثر عن يوسف الفنان والإنسان معا، ليكتشف في إحدى الردهات قدراته العالية ومعرفة الدقيقة بمدارس الفن الغربي الحديث، حيث تعرض مجموعة من اللوحات تم إنتاجها بعدما هاجر إلى باريس في الخمسينيات بعد الثورة المصرية ونفي الملك الفاروق، في تلك الحقبة استقر الفنان في مدينة النور بعدما التقى زوجته ذات الأصول الروسية والتي كانت تعمل صحفية وناقدة وراقصة، لكن سرعان ما انقلبت الآية بعد إعلان التأميم وبدء العدوان الثلاثي على مصر، حيث تم تضيق الخناق على المصريين المقيمين في فرنسا، وهو ما أدى إلى هجرته مع زوجته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليعمل كمهندس في واحدة من كبريات شركات الحديد والصلب هناك، وهنا يأتي تأثير مختلف على أعمال الفنان، لتبدأ تجربة جدية يتضح معها مهارة الفنان وقدرته على سبر أغوار مدارس جديدة تقترب من التجريد والتفكيك، لكن ظل كذلك وفيا لأسلوبه الأصلي، وإن كان يبدو هذا تناقضا مع ولائه للسريالية، إلا أنه يعكس ثراء وتعددية التجارب وخوض الفنان للتجريب، فكثير من أعمال هذه الحقبة تعكس واقعا كأنه لم يغادر مصر، وأن ريفها النابض بالحياة والفلاحين لايزالون في ذاكرته، لنجد في بعض الأعمال الأخرى عكس هذا، من خلال ظهور تأثر بمهنته والآلية الصناعية وهو ما بدا يوسف معتمدا عليه في تفكيك الأشكال وتجريدها بأسلوب فني حديث، تأثر كذلك الفنان بالحركة التبسطية للفن، لنجده يركز في بعض اللوحات على منحوتات مسطحة تم تجسيدها باللون بطريقة تكعيبية.
وكما ذكر القيم الفني للمعرض أن التركيز على المدارس الفنية والتجريب المستمر لم يجعل الفنان يغفل عن قضاياه الذاتية والاجتماعية والسياسية، بل قد ساعده هذا الثراء والتنوع في استعراض أفكاره بطرق مبتكرة، فمثلا نجد المرأة حاضرة في عدد لا يستهان به من الأعمال كأم وفلاحة وربة منزل وزوجة... كذلك نجد قضايا الفلاحين سواء في مصر أو في الريف الأمريكي، لكن معظم الأعمال يجمعها رابط مشترك في طريقة التنفيذ وهي سريالية الخلفية التي تشبه الحلم.
بجانب الموضوعات الاجتماعية والفلكلورية لم يغض يوسف الترف عن قضاياه القومية فركز في مجموعة من لوحاته على القضية الفلسطينية كلوحة "الرحلة إلى القدس" التي تعود إلى الخمسينيات ويستعرض فيها الفنان جانبا من الميثولوجيا الدينية وفكرة التسامح الديني، كذلك بدت المعاناة الفلسطينية في لوحات الفنان من خلال تصويره شاطئ غزة في عدد من الأعمال وكأنه سجن يحاصر من فيه، حيث ظهر هذا المشهد في لوحات الفنان مذ خمسينيات القرن الماضي ولايزال يتكرر في أعماله لليوم، بالإضافة لهذا فإن واحدة من اللوحات التي تتصدر صدر قاعات العرض تعكس مدى اهتمام يوسف بتلك القضية المفصلية من خلال التركيز على استمرار المعاناة وتفاقمها بتصوير الفنان مشهدا سرياليا للقتل والخراب والحصار جراء الاحتلال الصهيوني الغاشم على فلسطين وتهويد الأرض والتراث.
اهتم يوسف كذلك بحرب العراق اهتمامًا شديدًا، خاصة وأنه كان أحد المنتدبين من شركته الهندسية الأمريكية إلى العراق لبناء مصانع الصلب والحديد في زمن الرئيس الراحل صدام حسين، ليكون شاهدا على تقلب الأوضاع الأمريكية العراقية وهو ما رصده الفيلم التسجيلي المعروض بالمتحف وبعض اللوحات، وكان مدعاة للفنان وزوجته ليكونا نشطاء في حركة السلام لوقف الحرب ضد العراق وفلسطين حد السواء.
لقد ركزت بعض أعمال المعرض الاستعادي على ضحايا الحروب والنزاعات المسحلة وتأثيرها على الإنسان من خلال تصوير المحاربين القدامى الذين تم تشويههم نفسيا وجسديا جراء النزاع الإنساني غير المبرر وجدوى الحرب ومأسويتها، كما اشتملت المعروضات على أعمال تصيغ وتلخص مشاهد ملحمية لتاريخنا المعاصر.
لقطات وأعمال كانت بمثابة كبسولة زمنية صاغت عبثية الواقع بأسلوب خاص ومتنوع، لكنها تعكس في النهاية رؤية واحدة تأتي تحت اسم كمال يوسف.