فُصحى نجيب محفوظ.. دفاع مُستميت رغم شدة النقد
استخدام الراحل نجيب محفوظ للغة العربية "الفصحى" على لسان شخصياته الشعبية اعتبره كثير من النقاد استخداما يحيد كتاباته عن الواقعية.
واظب الأديب العالمي نجيب محفوظ على الدفاع باستماتة عن لغته العربية الفصحى على مدار مشروعه الأدبي، هذا التوظيف الذي تعرض بسببه لكثير من الانتقادات بسبب تمسكه بالفصحى التي يُمررها على لسان شخصياته الروائية قاطنة الأحياء الشعبية من أصحاب المستويات الاجتماعية والثقافية المنخفضة.
اعتبر كثير من نقاد تلك الفترة أن هذا الاستخدام اللغوي لم يكن موفقًا من جانب صاحب نوبل، غير أنّ محفوظ كان يدافع عن مهمة الأديب في الدفاع عن اللغة كما أكد في حوار صحفي سابق مع الناقد فؤاد دوارة، وقال فيه إن دور الأديب هو "الارتقاء بالعامية وتطور الفصحى لتتقارب اللغتان"، وهو ما حمله على عاتقه في كل أعماله الأدبية التي كانت تأكيدًا من جانبه على تلك العلاقة.
استعلاء
ساند محفوظ في استخدامه للغة العربية الفصحى عميد الأدب العربي طه حسين الذي كان موقفه واضحا من تلك الجزئية، فكانت كتاباته هو الآخر بالفصحى ولا يستخدم اللغة العامية فيها أياً كان الحوار بين الشخصيات، بينما هاجمه عدد من الكتاب حينها مبرهنين موقفهم بأنه "استعلاء" يقدمه الكاتب على اللغة الشعبية.
كما رأي محفوظ أن اللغة التي يستخدمها في حوار شخصياته هي لغة فصحى و"وجه من وجوه الحضارة، يتشكل بتشكلها، ويتقدم بتقدمها، ويتنوع بتنوعها، ويستوعب من الأشياء ما تستوعب".
العامية مرض
انتقد الدكتور عبد العظيم أنيس لغة نجيب محفوظ قائلًا، "يستفز القارئ بحواره الفصيح الذي يجرى على لسان شخصيات من صميم قلب الشعب المصري وأحيائه الشعبية"، ليرد عليه محفوظ بأن اللغة العامية من جملة الأمراض التي أصابت مجتمعنا مثل الجهل والفقر والمرض، والعامية مرض أساسه عدم الدراسة بسبب عدم انتشارها في البلاد العربية.
يقول الناقد الراحل رجاء النقاش في كتابه "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، إنّ تفوقه في اللغة العربية الفصحى يرجع لأستاذه ومعلمه الشيخ عجاج أستاذ اللغة العربية بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، الذي أذاقه حلاوة اللغة وجمال معانيها وبداعة أسلوبها.
يصف محفوظ اللغة العربية الفصحى التي استخدمها في كتاباته وحوار شخصياته قائلا "منذ أن بدأت الكتابة وأنا حريص على استعمال الفصحى والبعد قدر الإمكان عن العامية، لأن هناك في بلادنا عدة لهجات للعامية، فالصعيد يتحدث بلهجة عامية، ووجه بحري لهم لهجتهم، وداخل البلد الواحد قد لا يفهم سكانه بعضهم بعضًا بسبب اختلاف اللهجات المحلية".
ويضيف الراحل عن عالمنا، أنّ تمسكه باللغة العربية الفصحى يرجع إلى عدة أسباب كونها لغة عامة وغير ملفقة وقومية ودينية، مشيرًا إلى أنه حمل على عاتقه إعطاءها نوعًا من الحياة وتقريبها إلى أذهان الناس، والابتعاد عن الألفاظ الصعبة التي تزخر بها، حتى تكون صالحة للاستخدام الروائي.
وينفي محفوظ بحسب ما ذكر النقاش في صفحات كتابه، عدم استخدامه للغة العامية على الإطلاق، منوهًا أنه كان يستخدمها أحيانًا عندما كان يرى أنها أكثر دلالة وتعبيرًا عن المعنى، خاصة إذا كانت لتلك الألفاظ أصول في اللغة الفصحى.
بُعد عن الواقعية
انتقد أحد مترجمي أعمال نجيب محفوظ إلى الإنجليزية، التزام الأديب المصري بـ اللغة الفصحى في الحوار العام بين الشخصيات بأنه أخلّ بمطلب الواقعية، حيث يوجد لديه نوع من "العناد الطارئ" فهو لا يؤدي وظيفة فنية صحيحة.
وتشير الناقدة الفنية ماجدة خير الله، في تصريحات خاصة لـ"بوابة العين" إلى أنّ لغة نجيب محفوظ في روايته لغة "وديعة" لا بد وأن تكون لدى أي مثقف يحاول الكتابة، فبها تعلو اللغة لمرتبة راقية، ويشارك في تغيير العامية المتفشية في كل ركن من أركان البلاد، فالعقاد على سبيل المثال كان له لغة ثقيلة وصعبة ولكن لها جمهورها.
وتابعت خير الله، أنّ اللغة العربية لغة فضفاضة، فـهناك خريجون من الجامعة لا يستطيعون كتابة جملتين عربيتين بشكل سليم، وهو ما يوضح مقدار التدهور الذي أصاب اللغة خلال السنوات الأخيرة، ولكن على الرغم من ذلك يوجد من يقلّل من الأعمال الجيدة التي تحافظ على التراث اللغوي.
وأشارت خير الله إلى أن الفترة الأخيرة ظهرت الأعمال الفنية التي لا ترتقي بالمرة لأن تكون عملا ثقافيا، بسبب وجود الجمهور غير القارئ للفصحى، مؤكدة أن الدول وثقافتها ولغتها ترتقي بالتعلّم والقراءة، وكون الأديب المصري حمل على عاتقه ذلك الأمر، فهذا من شأنه وداعة اللغة والارتقاء بها.
لغة ضحلة
وأنهت الناقدة الفنية حديثها، بأن كل قارئ لأدب نجيب محفوظ، سيعرف جيدًا مدى عناية الراحل بجزئية اللغة الرصينة التي تعيش أبد الدهر، إلا أن جمهورها بدأ يقل تدريجيًا بسبب ضحالة اللغة التي يتحدثون بها، فبعض الشباب الآن لا يستطيعون قراءة أبيات الشعر، ولا الكتابة السليمة، موضحة أنّ لغة الحوار في السينما لا بد وأن تكتب عامية مشابهة للبيئة التي يعيش فيها المتحدث، فنجيب محفوظ كان يدرك جيدًا الفرق بين القارئ وجمهور السينما.
يوافقها في رأيها حول اختلاف الكتابة السينمائية عن الروائية الكاتب إحسان عبد القدوس الذي ذكر على لسانه الأديب المصري يوسف القعيد، حديثا سابقا بينه وبين نجيب محفوظ، أنّ الأخير ذكر عنده ذات مرة أنّه عندما كان يكتب سيناريوهات أفلام صلاح أبو سيف، كان يكتفي بكتابة السيناريو فقط، رافضًا كتابة الحوار لأنه لابد وأن يكون بالعامية، وهو لا يستطيع الكتابة بالعامية.
من بين أقوال نجيب محفوظ التي توضح مدى ارتباطه باللغة العربية قوله "تحدثك باللغة الإنجليزية مع شخص عربي مثلك، لا يعني إطلاقًا أنك شخص مثقف، بل أنك إنسان جاهل للغتك العربية، ومحروم أيضًا من جمالها".