مكتبة "بيت الحكمة".. نموذج لتفوق الحضارة الإسلامية فكريا
المكتبة تعد خير دليل على المستوى الرفيع الذي بلغته النقاشات الفكرية والعلمية في العصر العباسي الذي اتسم بظاهرة "التواصل الحضاري".
تمثل "بيت الحكمة" النموذج الأرقى للتسامح الفكري الذي بلغته الحضارة الإسلامية خلال العصر العباسي، وتكشف المكتبة المعروفة أيضا بـ"دار الحكمة" و"خزانة الحكمة" عن اهتمام خلفاء الدولة وتقديرهم البالغ للعلم والعلماء.
ورغم أهمية هذا النموذج فإنه لم يحظَ بعناية كبيرة في الدراسات التاريخية، إذ إن المتداول عن مكتبة "بيت الحكمة"، التي خصها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بالذكر عبر تويتر، في المصادر والمراجع التاريخية يكاد ينحصر في جملة من المرويات التاريخية، حتى اختارت الباحثة السودانية رفيدة إسماعيل، قبل سنوات، المكتبة موضوعا لدراستها لنيل درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي، بعنوان "أثر (بيت الحكمة) في الحركة العلمية في الدولة العباسية".
وخلصت الدراسة إلى أن إنشاء "دار الحكمة" ساعد على تبني الحكام فكرة إنشاء المكتبات العامة، ورأت أن تأسيس المكتبة خير تعبير عن المستوى الرفيع الذي بلغته النقاشات الفكرية والعلمية، التي كانت سمة ذلك العصر الفريد الذي اتسم بظاهرة "التواصل الحضاري" بين العرب وأبناء الحضارات الأخرى التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية.
وصححت الباحثة، في دراستها، ما هو متداول عن حياة الرفاهية والبذخ التي عاشها الخليفة هارون الرشيد، مؤسس البيت، قائلة: "حياة الترف والبذخ التي اتصف بها رفعت شأنه في التاريخ والقصص، لكن سبب عظمته الحقيقية راجع إلى اليقظة الفكرية التي لم يعهد لها مثيل في تاريخ التقدم الفكري"، معتبرة أن هذه اليقظة كانت وليدة المؤثرات الأجنبية، الهندية والفارسية والسريانية والهيلينية، وتفاعلها مع الحضارة الإسلامية.
فيما يجمع المؤرخون على أن النهضة العلمية التي شهدها عهد الرشيد عكست اهتمامه الشخصي بجمع الكتب القديمة المختلفة على نطاق واسع، ما دفعه لتأسيس "بيت الحكمة"، وإسناد الإشراف عليها إلى علماء نابهين.
وذكر المؤرخون أنه "لما جاء عصر المأمون نشطت معه حركة الجمع نشاطاً ملحوظاً وأرسلت البعثات إلى مختلف البلاد؛ بحثاً عن المخطوطات القديمة ومؤلفات اليونان والفرس والهنود، وزودت هـذه البعثات بالأموال، وأطلق المأمون على الدار التي ضمت آلاف الكتب المتنوعـة اسم (بيت الحكمة)، واختار للإشراف عليها العالم النابغة سهل بن هارون".
لعل المثال الأبرز على النهضة العلمية التي عرفها هذا العصر يرتبط بازدهار العلوم العقلية والفلسفية، إذ شهدت الدولة العباسية نقاشات حول ما سمي "العلوم النقلية والعقلية"، التي توجهت بالأساس نحو دراسة علوم القرآن الكريم ومدارس تفسيره وتأويله بين مختلف الفرق الإسلامية في سياق ما يعرف بـ"علم الكلام".
فيما خلق احتكاك العرب بالروم والفرس جواً جديداً، فتغيرت بعض العادات والتقاليد العربية، وبدأت دراسة العلوم الدينية في ضوء علمي المنطق والفلسفة، كما بدأت عملية فحص الروايات التاريخية والبحث في صحة الإسناد، ما أحدث طفرة جبارة في الفلسفة وعلوم التأويل.
وتزامنت تلك الطفرة مع نشاط آخر ارتبط بالعناية بالترجمة، إذ قامت حركة الترجمة في الدولة العباسية بمساعدة الفرس والروم واليونانيين، وعني أبو جعفر المنصور بترجمة الكتب، ونقل له حنين بن إسحق بعض كتب أبُقراط وجالينوس في الطب، وزادت العناية بترجمة الكتب في عهد هارون الرشيد بعد أن وقع في حوزته بعض المدن الرومية الكبرى، فأمر بترجمة ما عثر عليه المسلمون من كتب اليونان.
في عهد المأمون، قويت حركة النقل والترجمة من اللغات الأجنبية، خاصة من اليونانية والفارسية إلى العربية، فأرسل البعوث إلى القـسطنطينية لإحضار المصنفات الفريدة في الفلسفة والهندسة والموسيقى والطب، واشتغل الناس في عهده بعلوم الدين والحديث، وظهـر المجتهدون الذين يحاولون تفسير ما هو محل الاختلاف، واجتهد المأمون في بحث مسألة القرآن وخلقه، وعقد لهذا الغرض مجالس للمناظرة، يتناقش فيها في حضرته العلماء من القضاة والمحدثين، وكثر الجدل والنقاش في هذه المسألة.
وظهر في عهد المأمون جماعة من كبار العلماء خلد التاريخ أسماءهم، وعلى رأسهم ابن الهزيـل وابن سبار والجاحظ، ويروى عن المأمون أنه قال: "لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال"، وقـال أيضا: "أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يدبر وإذا أدبر أن يقبل"، كما قال: "أحسن المجالس ما نظر فيه إلى الناس"، وأيضا: "الناس ثلاثة؛ فمنهم مثل الغذاء لا بد منه على كل حال، ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض، ومنهم كالداء مكروه على كل حال".
وذكر المؤرخون أن الغرض من مجالس المناظرة في عهد المأمون فض الفتن والمنازعات، وعدم تعطيل أحكام الله سبحانه وتعالى، وبفضل هذا المناخ أصبح عصره من أزهى عصور العلم في الدولة العباسية؛ لميل المأمون نفسه إلى تحصيل العلوم والمعارف ونشر المعرفة بين الناس؛ لذلك أصبح "بيت الحكمة"، كما تشير الدراسة، "أشبه بجامعة علمية، تحوي داراً للكتب يجتمع فيـها العلماء للترجمة والتأليف والدرس، بها أماكن خاصة للناسخين لنسخ الكتـب لأنفسهم ولغيرهم بأجور معينة، وأشرف عليها موظف عرف باسم (صاحب بيت الحكمة)، وكان الخلفاء يختارون من اتصف بسعة العقل والأمانة العلمية".
وهناك من يرى بين دارسي المكتبات أن "بيت الحكمة كانت أول مكتبة عامة ذات شأن في العالم الإسلامي، بل إنها أول جامعة إسلامية اجتمع فيها العلماء والباحثون، ولجأ إليها الطلاب، فكان بذلك أول مركز علمي يحقق للطلاب زادا علميا وفيرا، ويخرج لهم من جهد القائمين عليه ثقافة مختلفة الاتجاه تشمل علوم الطب والفلسفة والحكمة".
ورغم أن المصادر التاريخية لا تظهر وصفا دقيقا للمكان فإن شذرات أظهرتها بعض الكتب يمكن أن تساعد على رسم صورة للمكان، إذ توصف "بيت الحكمة" بأنها "بناية كبيرة فيها عدد من القاعات، والحجرات الواسعة موزعة في أقسام الدار، وتضم مجموعة من خزائن الكتب في كل خزانة مجموعة من الأسفار العلمية الخاصة التي تنسب في الغالب إلى مؤسسها كخزانة".
واختلف الباحثون في شخصية مؤسس بيت الحكمة، البعض يؤكد أن المكتبة كانت موجودة منذ أيام الرشيد، وقيل إن "علان الوراق الشعوبي كان ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة، وفي السنوات الـ10 الأولى من العصر العباسي اتخذ الفقه الإسلامي صورته الكاملة، فوضع أبو حنيفة مذهبه الفقهي في عهد المنصور، ووضع مالك والشافعي في عهد هارون".
وقيل أيضا: "في عهد المهدي، كان الإنتاج محدودا، وفي عهد هارون جُمع عدد كبير من الكتب وانتشر التعليم بين العامة، لذا أنشأ هارون (بيت الحكمة) ليحفظ بها الكتب التي جمعها، ما ساعد على انتشار التعليم، وفي عهد الرشيد بدأ في جمع الكتب القديمة 3 وأخذت تؤتي أكلها طيبا يانعا على نطاق واسع، وشُيدت للكتب دار خاصة ووُكل علماء نابهون للإشراف على هذه الدار، ولما تولى ووسع المأمون بيت الحكمة التي أنشأها أبوه".
أما موقع بيت الحكمة، فغير معروف إن كان جزءا من قصر الخليفة أم بناية كبيرة مستقلة، والمرجح أنها كانت دارا خاصة بالكتب ضمن قصور الخلافة، وأبرز مَن تولى شؤونها سهل بن هارون، الذي كان يتولى الهيمنة على إدارة دار الكتب الخاصة بالدولة المأمونية في بغداد، وتعرف بـ"بيت الحكمة"، كما كان يتولى تنظيم خزانة المأمون، وكان هناك أمينا على ترجمة الكتب هو يوحنا بن ماسويه، إذ ظل أمينا على الترجمة في زمن الرشيد، والأمين، والمأمون، واستمر حتى أيام المتوكل.
وبعد ضعف الدولة العباسية وانهيارها، ظلت المكتبة تؤدي دورها حتى الغزو المغولي بقيادة هولاكو خان، الذي حاصر بغداد عاصمة الخلافة الإسلاميَّة 12 يوما في 9 صفر 656 هـ، المُوافق 10 فبراير/شُباط 1258، وتمكن جيشه من تدميرها وإبادة مُعظم سُكَّانها، ثم أضرم المغول النار في "بيت الحكمة"، وألقوا بالكُتب في نهري دجلة والفُرات.
aXA6IDMuMTQ0LjkzLjM0IA== جزيرة ام اند امز