النأي بالنفس: هل ينجح الجيش الوطني الليبي في تحييد مدينة مصراتة؟
مصراتة تُعدّ مدينة ذات أهمية استراتيجية وعسكرية كبيرة وهي إحدى الدعائم الرئيسية لحكومة الوفاق.
أعلن الجيش الوطني الليبي في 23 أغسطس/آب الجاري تنفيذ هجمات جوية على مدينة مصراتة لاستهداف ورشة لصيانة وإصلاح الطائرات تتمركز فيها طائرات قتالية وأخرى مسيرة تم تجهيزها لشن عمليات قتالية ضد قواته.
ويأتي ذلك عقب أسبوع من مطالبة الجيش الليبي بعدم انخراط مصراتة في العمليات العسكرية ضده، حيث كانت القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية أصدرت بياناً في 18 أغسطس/آب الجاري يطالب بعدم انخراط مصراتة في المجهود الحربي ضد عمليات تحرير طرابلس من أجل ألا تتحول إلى هدف مشروع لسلاح الجو الليبي.
أهمية مصراتة
تُعدّ مدينة مصراتة، الواقعة شمال غرب ليبيا على بُعد 200 كيلومتر شرق العاصمة طرابلس، ذات أهمية استراتيجية وعسكرية كبيرة، خاصةً أنها كانت قد أسهمت بشكل فعَّال في إسقاط نظام القذافي عبر العديد من الكتائب والمجموعات المسلحة.
وفي الوقت الراهن تعد مليشيات مصراتة إحدى الدعائم الرئيسية لحكومة الوفاق في ظل كثرة أعدادها وتسليحها الجيد نظراً لسيطرتها على مخازن السلاح الخاصة بالقذافي في عام 2011.
علاوةً على خبراتها الميدانية الكبيرة لانخراطها في مواجهات مسلحة متعددة على مدار السنوات الماضية، ومع إعلان الجيش الوطني الليبي في أبريل/ نيسان 2019 إطلاق معركة طوفان الكرامة لتحرير طرابلس من المليشيات المسلحة، رفضت بعض مليشيات مصراتة التحرُّك وأعلنت مواجهة القوات المسلحة الليبية.
جدير بالذكر أن مدينة مصراتة يوجد بها مطار دولي كان يستخدم في الأساس كمرفق لتدريب طلبة الكلية الجوية، لكن تمَّ تحويله إلى مطار مدني لخدمة سكان الغرب الليبي.
ومنذ عام 2014 قامت المليشيات المسلحة بعسكرة المطار عبر تحويله إلى "عسكري" لتلقي شحنات السلاح من الخارج، كذلك يوجد بالمدينة ميناء استراتيجي لم تتوانَ تركيا في استخدامه من أجل تهريب الأسلحة والمقاتلين الذين تقوم بنقلهم من إدلب السورية إلى ليبيا بهدف دعم حكومة الوفاق في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
شروط الجيش الوطني
حدّد الجيش الوطني الليبي عدداً من الشروط من أجل قبول الحوار مع مدينة مصراتة، وفي مقدمتها تفكيك المليشيات المسلحة التي تحارب إلى جانب حكومة الوفاق على أن يقوم الجيش بتوفير التأمين اللازم للمدينة، علاوة على تسليم كامل الأسلحة المتوسطة والثقيلة.
وتشمل الشروط كذلك تقديم المتورطين في جرائم بحق الشعب الليبي إلى القضاء، بالإضافة إلى طرد المستشارين الأجانب المنتشرين في المدينة الذين يقودون العمليات العسكرية ضد الجيش الليبي.
ويُقصد بالمستشارين الأجانب العسكريون الأتراك المنتشرون في المدينة الذين يقومون بتدريب المليشيات والإشراف على خططها القتالية ضد الجيش الليبي.
وكان مدير إدارة التوجيه المعنوي وآمر المركز الإعلامي لغرفة عمليات الكرامة العميد خالد المحجوب قد أعلن في أواخر يوليو/تموز الماضي، إصابة عدد من العسكريين الأتراك الذين يقومون بتدريب المليشيات المسلحة الموالية لحكومة الوفاق في الكلية الجوية بمصراتة.
وتزامناً مع تكثيف الجيش الوطني لهجماته على مدينة مصراتة ظهرت وساطات من بعض الأطراف في المدينة، بهدف عقد اتفاق مع المشير خليفة حفتر القائد العام للقوات المسلحة الليبية، يتضمن انسحاب جميع المليشيات المنخرطة في معارك طرابلس، وتسليم الأسلحة ما عدا قوة بقوام لواء لحماية المدينة، مع تعهُّد الجيش بعدم دخول مصراتة، وهو ما رفضه بشكل واضح، خاصةً في ظل تأكيداته المستمرة على ضرورة محاكمة المتورطين في جرائم العنف ضد الشعب الليبي.
دوافع التحييد
إن رغبة الجيش الوطني الليبي في تحييد مدينة مصراتة إنما تنطلق من بعض الدوافع المرتبطة بالسياقات الداخلية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1. أولوية تحرير طرابلس: يُعد تحرير العاصمة طرابلس من المليشيات المسلحة الهدف الرئيسي والأبرز للجيش الوطني الليبي خلال المرحلة الحالية، وبالتالي فإن تحييد مدينة مصراتة عن تلك المعركة يصب في صالح الجيش الوطني الليبي الذي لا يرغب في تشتيت جهوده، والدخول في معارك فرعية، وهو ما يتضح بشكل كبير مع محاولات العصابات التشادية على مدار شهر أغسطس/آب الجاري تأزيم الوضع في الجنوب الليبي، وبالتحديد في مدينة مرزق، التي تشهد جرائم إنسانية من جانب العصابات التي تحظى بدعم غير مباشر من حكومة الوفاق، والتي تحاول نقل المعركة إلى الجنوب وإثناء الجيش عن تحرير طرابلس.
2. تفكيك المليشيات المسلحة: تنتشر في مدينة مصراتة العديد من المليشيات التي تعد الأكثر عدداً والأقوى جاهزية، مقارنة بالموجودة في المناطق الأخرى، وتمثل المدينة بحكم وجود مطار دولي وميناء استراتيجي بها وضعا متمايزا عن باقي المدن، وهو ما شكّل حافزا كبيرا للمليشيات من أجل الانتشار بها، ولعل أبرز تلك المليشيات، مليشيا "لواء الصمود" التي يتزعمها "صلاح بادي" المطلوب دولياً والذي قامت وزارة الخزانة الأمريكية بفرض عقوبات عليه لانخراطه في أعمال إرهابية بالعاصمة الليبية طرابلس.
3. إسقاط المشروع التركي: تسعى تركيا خلال الفترة الأخيرة إلى إقامة قاعدة تركية في مدينة مصراتة شمال غرب البلاد، من أجل تعزيز مساعداتها لحكومة الوفاق، خاصةً مع تحقيق الجيش الوطني الليبي نجاحات مستمرة على محاور العاصمة طرابلس منذ إطلاق معركة طوفان الكرامة في أبريل/ نيسان الماضي من أجل تحرير العاصمة من سطوة المليشيات المدعومة بشكل رئيسي من تركيا،
وفي هذا الإطار أعلن المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري، في 18 أغسطس/ آب الجاري، قيام الجيش بتنفيذ ضربة نوعية استهدفت مخزنا للطائرات بدون طيار في مطار مصراتة، وأن تلك الضربة أحبطت مخططاً لتحويله إلى قاعدة جوية تركية.
ويعكس الإصرار التركي على تعزيز الوجود العسكري في ليبيا الرغبة في توظيف الصراع كورقة مساومة في إطار الصراعات المسلحة بمنطقة الشرق الأوسط علاوةً على سعي أنقرة نحو كسب نفوذ يُشكّل مصدر قلق وتهديد لدول الجوار الليبي، وبالتحديد مصر.
4. إيقاف تهريب الأسلحة: تعد مصراتة أحد المنافذ الرئيسية إن لم تكن أهمها فيما يتعلق بحركة تهريب الأسلحة إلى الداخل الليبي سواء كان ذلك عبر المطار أو الميناء، وبالتالي فإن القدرة على تحييد المدينة يُشكّل عاملا حاسما في تقليل أو منع تهريب الأسلحة التي تعد مخالفة للقرار رقم 1970 الصادر عن مجلس الأمن في فبراير/ شباط 2011، والذي تضمن حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا مع قيام أعضاء مجلس الأمن بتفتيش السفن المتجهة إليها ومصادرة كل ما يحظر توريده وإتلافه.
انقسام مصراتي محتدم
يمكن القول إن تركيبة صناعة القرار في مدينة مصراتة لا تتسم بالتوافق في ظل تعدُّد مراكز القوى وتباين تعاطي كل منها مع الجيش الوطني الليبي، حيث إن هناك ثلاثة تيارات رئيسية؛ التيار الأول يدعم التفاوض لكن بشروط، والآخر يرفض بشكل تام أي تفاوض مع الجيش، أما التيار الثالث فيدعم التحالف مع الجيش.
ويقود التيار الأول رئيس مجلس الدولة السابق عبدالرحمن السويحلي، وتتضمن الشروط التفاوضية المعلنة الإفلات من العقاب للمنخرطين في أعمال عنف بمدينة مصراتة، وضمانات عدم الملاحقة لمليشياتها مع تفعيل الفيدرالية بجعل المدينة إقليما رابعا إلى جانب طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق وفزان في الجنوب، وموقف الجيش من تلك الشروط واضح خاصةً فيما يتعلق برفض التفريط في محاكمة أي شخص انخرط في العمليات الإرهابية علاوةً على رؤية المشير خليفة حفتر بضرورة وجود جيش وطني قوي لدولة ليبية موحدة.
أما التيار الثاني فيقوده الإرهابي صلاح بادي الذي يعتبر أن الأولوية لقتال الجيش الليبي ومحاولة تعزيز الدعم العسكري للمليشيات في تلك المرحلة، ويحظى هذا التيار بدعم قطري وتركي بشكل رئيسي من أجل تأجيج الصراع الليبي عبر تقديم جميع المساعدات الممكنة مالياً وعسكرياً من أجل عدم سقوط طرابلس وباقي المدن التي تسيطر عليها المليشيات، ويمثل الارتباط بين ذلك التيار المليشياوي وبين حكومة الوفاق أحد مصادر الانتقادات الدولية اللاذعة لحكومة الوفاق.
ويمثل التيار الثالث؛ التيار المدني الليبرالي الذي يقوده فوزي عبدالعال، وزير الداخلية السابق في الحكومة الانتقالية التابعة للمجلس الوطني الانتقالي، حيث يمثل هذا التيار الرؤية الداعية للتفاوض والتحاور مع الجيش الوطني الليبي، ويعد هذا التيار هو الأكثر قرباً من الجيش في ظل عدم محاولاته فرض شروط مجحفة ورفض عسكرة الصراع في ليبيا، وتشير بعض التقارير إلى وجود مفاوضات غير مباشرة بين عبدالعال والجيش الليبي في الفترة الأخيرة.
مسارات محتملة
تعزيز الجيش الوطني الليبي لمكاسبه الميدانية على مدار الأشهر الأربعة الماضية يُعزّز من احتفاظه بموقع القوة في أي مسارات تفاوضية قائمة أو محتملة، خاصةً مع نجاح حفتر في تصدير نفسه باعتباره الطرف الأقوى والأكثر فاعلية في المشهد الليبي في مواجهة خصم سياسي ضعيف يتمثل في السراج، الذي لا يحظى بالقبول حتى بين حلفائه الإسلاميين والمليشياويين، ويُواجَه بانتقادات دولية من آنٍ لآخر في ظل عدم قدرته على فك الارتباط مع المليشيات المسلحة المنتشرة في العاصمة طرابلس.
وبالتالي، فإن السياقات الحالية من شأنها تعزيز المسارات المتعلقة بتحييد مدينة مصراتة في المدى المنظور، خاصةً أن هناك أصواتا عديدة داخل المدينة تطالب بذلك لا سيما من التيار المدني المُطالِب بضرورة النأي بالنفس عن المعركة القائمة بين الجيش الوطني الليبي ومليشيات حكومة الوفاق، ويُعزز من ذلك المسار تكثيف الجيش الوطني الليبي هجماته الجوية على مصراتة وتحقيق الغلبة الجوية في الصراع المحتدم، إلى جانب نجاحاته المتزايدة في الإفشال التدريجي للمشروع التركي في ليبيا الساعي إلى تحويلها بشكلٍ عام إلى منطقة نفوذ وورقة مساومة، وتحويل مصراتة بشكلٍ خاص إلى قاعدة عسكرية، ولذا فإن قدرة الجيش الوطني الليبي على تحييد الخصوم هو جزء من نجاح الجيش في إدارة المعركة عسكرياً وسياسياً خلال الفترة الأخيرة.
aXA6IDMuMTcuNzYuMTYzIA== جزيرة ام اند امز